للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله مدة بقائه في الدنيا]

قال: [إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية، ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل! فهو من أجهل الخلق، بل من أضلهم قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٦ - ٢٨]].

هذه قاعدة في باب العبودية، وهو: أن العبودية ملازمة للإنسان منذ التكليف إلى الوفاة، وأن الإنسان مهما تقلب في الأعمال الصالحة، وفي التعبد لله عز وجل، فإنه سيظل عبداً لله حتى يموت، مهما وصل من الدرجات في العبادة، ولهذا يعتبر الصوفية من أبرز الناس عناية بمراتب التعبد وبدرجات التعبد ومقامات التعبد، وكما سبق أن الصوفية أنواع وليس نوعاً واحداً.

منهم من جعل التعبد أمراً سلبياً يقتضي ترك التدين لله عز وجل، ويقتضي الفساد في الأرض، وهؤلاء أمة ضالة منحرفة.

وهناك من الصوفية من اشتغل في العبادة لله عز وجل، ولكن مع هذا الاشتغال شيء من الانحراف، سواءً في الوسائل أو في المقاصد، أو سواءً في الدلائل أو في المسائل، يقعون في شيء من الانحراف، ولهذا قد يجتهد بعضهم ويرتب مقامات متعددة للعبادة هي ليست بلازمة.

وهناك من أهل السنة من اجتهد في وضع مقامات للعبادة، بعضها من الأعمال الصالحة التي نص عليها في الكتاب والسنة، وبعضها من المنازل التي هي عبارة عن نتائج للأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء الذين كتبوا في السلوك في هذا الباب اختلافاً واسعاً وكبيراً.

وهناك تحقيق رائع لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه التحفة الإعراقية، يقول فيه: إن ترتيب المنازل هي أعمال اجتهادية، وأحياناً قد يرتب الإنسان بعض المنازل بحسب ما وصله من العلم أو العمل.

يعني: ما وصله من العلم عن الآخرين، أو ما وصله من العمل في نفسه، فيرتبها بطريقة اجتهادية، وبعضهم يأتي ويزيد، وبعضهم يقسم المنزلة الواحدة إلى منزلتين أو أكثر، وبعضهم يضم ثلاث منازل في منزلة واحدة، وهكذا فهي أمور اجتهادية كالزهد والورع والتعبد، أساسها عند أهل السنة ينشأ من تطبيق الأمر والنهي، يعني: إذا أراد الإنسان أن يصل إلى منزلة عالية في العبودية، وأن يصل إلى منزلة عالية في الإيمان؛ فإنه يبدأ بالأمر والنهي، يبدأ بفعل ما أمر الله به، وترك ما حرم الله سبحانه وتعالى، فكلما زاد ضبطاً لنفسه، وكلما ازداد في العمل الصالح، وكلما ابتعد عن المحرم، ارتفع في الإيمان أكثر وأكثر، حتى يصل إلى درجات قد لا يصلها كثير من الناس، وقد لا يثبت عند هذه الدرجة، بمجرد أن يقع في خلل، قد ينزل به عن هذا المستوى الذي وصل إليه.

إذاً: أساس العبودية، وأساس المقامات العالية في الإيمان: اتباع الأمر والنهي.

وأصل اتباع الأمر والنهي: هو العلم بالعبادات الشرعية، ومعرفة وصفها الشرعي ومعرفة كيف يقوم بهذه العبادة، وبناءً على هذا يجتهد في العمل، وحينئذٍ سيصل إلى مقامات عالية في هذا الباب.

والآيات القادمة كلها تجتمع في معنى واحد وهو: أن كمال المخلوق في التعبد لله سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٨٨ - ٩٥].

وقال تعالى في المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:٥٩]].

مع أن الأنبياء هم أعلى الناس تعبداً لله عز وجل.

قال: [وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:١٩ - ٢٠].

وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِح

<<  <  ج: ص:  >  >>