للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة]

المذهب الثاني: مذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة، وهؤلاء حصروا معنى العبودية في اعتقاد أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، وهذا هو توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية والعبودية أوسع من ذلك، فهو يقتضي أن الله عز وجل مألوه ومعبود في أفعال الإنسان، فلا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا من الله، وهذا ما سيأتي توضيحه وبيانه، أما اعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فهو جزء من أساس الدين إلا أن هذا غير كاف في الإيمان، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، فهذه الآية فيها بيان أن من الناس من يكون عنده جزء من الإيمان لكنه جزء ناقص غير كامل، وهو أنه يعرف أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، لكنه لا يتعبد لله عز وجل، وهكذا كان حال عامة الكفار من القرشيين وغيرهم، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، فهم يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، لكنهم يعبدون مع الله غيره، كما قال الله عز وجل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، فهم يعرفون الله، ولهذا كان المشركون يعظمون البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويحجون إليه، ويذهبون إلى منى وعرفات، وإلى مزدلفة، وكان القرشيون بشكل خاص يسمون أنفسهم الحمس، ويقولون: نحن حماة البيت لا نخرج من أرض الحرم، ويقفون عند مزدلفة؛ لأن مزدلفة تعتبر من الحرم، ويذهب عامة العرب إلى عرفات، ثم يعودون من عرفات ويلتقي العرب جميعاً في الحج في مزدلفة، ولهذا سميت جمعاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف).

وكان الكفار يعتقدون أن الله عز وجل موجود، وأنه خالق، ورازق، لكن هذا وحده لا يكفي، ولهذا قال قوم هود لهود، كما قال الله عز وجل عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:٧٠].

فقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف:٧٠]، يدل على أنهم يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه أيضاً آلهة أخرى، وهذا يقتضي أنهم كانوا يعرفون الله، ويعتقدون بأن الله هو الخالق الرازق، وهذا لا يكفي في الإيمان والعبودية، بل لا بد أن ينضاف إليه العمل، وأن يكون عمل الإنسان خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى، أما المعتزلة والأشعرية فإنهم يرون أن حقيقة التوحيد الأساسية هي اعتقاد أن الله هو الخالق الرازق، وهذا فهم فاسد لمعنى العبودية، ولهذا فسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، فقالوا في شهادة التوحيد لا إلا الله: الإله معناه: القادر على الاختراع والإبداع والخلق، وهذا تفسير في غير موطنه، فإن الإله جاء على وزن فعال بمعنى: مفعول يعني: مألوه، والمقصود: أن الله عز وجل لا مألوه، ولا معبود غيره، ولا محبوب غيره، ولا مخوف غيره، ولا متوكل عليه غيره، وهو الإله وحده دون غيره، وهذا هو المتفق عليه في لغة العرب، فإن أهل العربية متفقون على أن الإله بمعنى: مألوه، يعني: معبود، ولهذا يقول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي فجعل التسبيح والترجيع داخلاً في التأله.

وهذا المذهب ترتب عليه انحرافات كبيرة جداً في حياة الأمة، منها: تسويغ القبورية والدفاع عن عبادة القبور في العالم الإسلامي، ولهذا انتشرت عبادة القبور من دون الله في البلاد الإسلامية انتشاراً كبيراً، بسبب الانحراف الذي حصل في مفهوم الإله، ومفهوم شهادة أن لا إله إلا الله عند علماء المعتزلة والأشعرية، فسوغوا لبناء المساجد على القبور، وللطواف حول القبور، بل سوغوا للذبح والنذر لها، لكن هذا لا يعني أن كل علماء المعتزلة والأشعرية كانوا كذلك، فإنه يوجد من علماء المعتزلة، ومن علماء الأشعرية من كان ينكر عبادة القبور من دون الله عز وجل، وينكر ما يقوم به الجهال عند القبور من التعبد والتذلل لغير الله عز وجل، لكن أصل المنهج الأشعري والمعتزلي قائم على تفسير الإله بأنه القادر على الاختراع، فترتب على ذلك بأن حقيقة التوحيد هو توحيد الألوهية، وأن توحيد العبودية هو نفسه توحيد الألوهية، ففسروا الألوهية والعبودية بالربوبية وهذا تفسير فاسد، ودمج في غير محله.

<<  <  ج: ص:  >  >>