للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العولمة والحرية]

العولمة قائمة على الحرية الاقتصادية، والعولمة: هي فكرة ومذهب هدفه إزاحة أي عقبة أمام انتقال رأس المال، فرأس المال ينتقل من هذا البلد إلى ذاك البلد بدون أي عوائق، سواء كانت عوائق أخلاقية أو عوائق الجمارك التي هي العوائق النظامية، أو أي عائق من العوائق، التي منها: ألا تقوم الدول بدعم القضايا الاجتماعية في بلادها، فيجب عليها حسب النظرة الغربية أن ترفع الإعانات التي تعطيها للمواد الضرورية مثل الأكل أو غيره من الأشياء الأساسية في حياة الإنسان، وأنه يجب على الدولة أن ترفع يدها عن الصحة وتكون للقطاع الخاص جميعاً، وألا تكون هناك مستشفيات تابعة للدولة تعالج الناس بالمجان، ويجب كذلك على الدولة أن ترفع أي نوع من أنواع الإعانات، وأن تكتفي الدولة على مشاريعها الخاصة فقط، وأما بقية الأمور فإنها تسلمها للقطاع الخاص، فهذه فكرة العولمة الأساسية.

فهل يمكن تطبيقها بالأسلوب الذي يريده الغربيون مائة بالمائة؟

الجواب

يستحيل أن تطبق بالصورة التي يريدها الغربيون مائة بالمائة؛ لأن هناك عقبات اجتماعية، فإذا كان الغرب لا يعرفون العيب، فنحن نعرف العيب، وإذا تركوا دينهم وأعرضوا عنه وأصبح همهم الأساسي هو المال، فهناك بلدان كثيرة جداً عندها أديان ولو كان التزامها ضعيفاً، إلا أنه من المستحيل أن يرضوا بهذا، فمن يتصور أنه يمكن أن تفتح بارات للخمور ومحلات للدعارة في بلاد المسلمين؟ فلا يرضى بهذا أحد من أهل الإسلام، وإن كان أحياناً قد يوجد ضغوط على البلاد الإسلامية لرفع الحواجز عن مثل هذه القضايا، والشاهد -يا إخواني! - هو أن الغربيين تحرروا فعلاً من الأديان وتحرروا من الأوضاع الاجتماعية، وتحرروا من كل شيء، فهل حصلوا على الحرية الحقيقية؟

الجواب

لا، فقد استعبدهم الشيطان، واستعبدتهم الآراء الغريبة، وأصبحوا فريسة كبيرة للشيطان يتلاعب بهم، وليس هناك حد فاصل أو منطقة فارغة، فإما أن تكون عابداً لله عز وجل أو تكون عابداً للشيطان، ويجب على المسلمين أن يطالبوا بالحرية الصحيحة المنضبطة التي تكون بعيدة عن قيود البشر، فتعبدنا لله عز وجل يكون بقدر الانفكاك من التعبد للمخلوقين، وأن نكون أحراراً منهم، ولهذا تعلمون قصة ربعي بن عامر عندما جاء إلى كسرى أو أحد قوات كسرى في معركة القادسية فقال له: إن الله بعث إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

فالصحابة صاروا أحراراً من عبادة العباد، وقد كان يستعبدهم هوى مطاع، أو حاكم ظالم، أو قبيلة تحكم أفرادها بأي أسلوب، كما قال الشاعر: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد يعني: أنا من جماعتي، فإذا أتوا برأي راشد فأنا معهم راشد، وإذا أتوا برأي ليس برشيد فأنا غاوٍ معهم، وكذلك الآصار والأسر الاجتماعي: كالأسر المذهبي.

ولهذا فإن أكثر الناس حرية هم الذين يتعبدون لله عز وجل، فكلما تعبد الإنسان لله سبحانه وتعالى كلما نال الراحة والسرور والطمأنينة والحرية من البشر، وكلما ترك التعبد لله عز وجل فهو بقدر هذا الترك للتعبد لله عز وجل يتعبد للشيطان وللهوى وللقبيلة، أو لأي وضع من الأوضاع التي يعيش فيها.

ولهذا نحن نطالب بالحرية التي هي بمعنى: التعلق المطلق بالله عز وجل وبشريعته، فكلما التزمنا بمحبة الله وبشريعته فنحن أحرار؛ لأننا لسنا عبيداً للبشر، والمطلوب في الحرية ألا تكون عبداً للمخلوق؛ لأنه إنسان مثلك، فليس له حق في أن يستعبدك، ولا يعني: أن الحرية ألا يطيع الإنسان غيره إذا كان في طاعته طاعة لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أمر بطاعة الوالدين، فلا تكون هذه الطاعة عبودية إلا إذا أمراك بالمعصية وأطعتهما، والحاكم المسلم طاعته واجبة بأمر الله عز وجل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون عبودية للحاكم إذا تذلل الإنسان له وأطاعه في معصية الله عز وجل، وهكذا الحال مع القبيلة، أو مع النفس، أو مع بقية البشر، فإذا استقام الوالدان واستقامت القبيلة واستقام الحاكم واستقام الوضع الاجتماعي الذي أنت فيه على طاعة الله فلك حرية ليس لها حدود بعد ذلك.

والذي دعا إلى التعليق في هذا الموضوع المهم الذي هو موضوع الحرية هو قول شيخ الإسلام الذي يعتبر قاعدة في هذا الباب عندما قال: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.

ومتى كان الإنسان حراً في قلبه فإنه لا يمكن استعباده إذا كان حراً لله عز وجل، مهما حاول الآخرون والشيطان استعباده، ومهما حاولت أي أمة من الأمم استعباده فإنه لا يرضى بالعبودية؛ لأن الحرية الحقيقية حرية القلب، والقلب هو أساس عمل الإنسان، والجوارح ما هي إلا نتيجة لعمل القلب.

ولا يمكن أن يكون هناك عمل من أعمال الجوارح الاختيارية دون أن يكون له أساس في القلب، وهذه قاعدة أهل العلم المعروفة في علاقة الظاهر بالباطن، وفي علاقة القلب بالجوارح، وهي: أن العلاقة علاقة مطردة وتامة إلا في حالتين: في حالة النفاق، وفي حالة الإكراه، ففي حالة النفاق يظهر الإنسان شيئاً ويخفي شيئاً آخر، وفي حالة الإكراه يلزم في

<<  <  ج: ص:  >  >>