للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علم الله الأزلي بكل ما هو كائن]

الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها: المرتبة الأولى: علم الله الأزلي بكل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق علم الله به أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً.

وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة العلم في الفقرة رقم (٧)].

فالمخلوقون يتجدد علمهم بالشيء عندما يحصل وعندما يحصِّلون العلم، أما الله عز وجل فقد علم كل شيء أزلا، ولا يتجدد لله العلم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل شيء معلوم له أزلاً.

وأما ما جاء في بعض الآيات مثل قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣] فليس المقصود أنه يتجدد لله علم بذلك، وإنما المقصود ظهور ذلك العلم ظهوراً يترتب عليه ثواب وعقاب، وليس معنى ذلك أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً من قبل، بل كل شيء معلوم لله أزلاً.

وقد سبق إيضاح ذلك في الفقرة السابقة من الفقرات التي اشتمل عليها الكتاب.

انظر الفقرة رقم (٧).

[علْم الله محيط بكل شيء، فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون، ومالم يكن أن لو كان كيف يكون].

علم الله تعالى: ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لا يكون قد علمه الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:٢٨]، فهم يَسألون أن يرجعوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، والله تعالى يقول: إنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا الشيء لم يكن، ومع ذلك علم لو كان كيف سيكون، فعلمه محيط بكل شيء.

[كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٧ - ٢٨].

فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوع الكفار إلى الدنيا، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهو عنه].

ونظير هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا يكون، ولو أنه سيكون فقد علم الله تعالى كيف يكون.

فقولنا: (عن أمر لا يكون) هو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً من الناس، فلو كان متخذاً خليلاً لكان المتخَذ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه لا يتخذ خليلاً، فهذا لا يتعلق بالعلم، ولكنه يتعلق بالشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون.

[وقال الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت:٤٧]، وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:٨ - ١٠]، وقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٣ - ١٤]، وقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:٣].

وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علم الله، ولا يحصل لله علم بشيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً.

قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (أضواء البيان) عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣] قال: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.

وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:١٥٤]، فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة:١٤٣] أي: علماً يترتب عليه الثواب والعقاب.

فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما العلم بالسر والنجوى فهو سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.