للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن رجب في شرحه لهذا الحديث]

للحافظ ابن رجب رحمه الله كلام جميل حول شرح هذا الحديث، يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وقوله للذي اختصر له في الوصية: (لا تغضب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).

وكل هذه الأربعة الأحاديث من الأربعين، وبعضها مماثل لبعض؛ لأن قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) من جنس: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)؛ لأن كونه يقول خيراً من الاشتغال بما يعنيه، وكونه يصمت، فقد صمت عن الكلام فيما لا يعنيه، وعن الاشتغال بما لا يعنيه، واشتغل بما يعنيه، وكذلك الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فهو يقدم على الشيء الذي يعود على غيره بالخير، كما أنه يقدم على ما يعود عليه بالخير.

قال رحمه الله: (ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، والاقتصار على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى (يعنيه): أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس؛ بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، وإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه، كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه، وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: (الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما وحوى، وتذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

قال بعضهم: استحِ من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك، وقال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره إليك.

وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٦ - ١٨]، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:٦١]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:٨٠].

وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حفظ اللسان من لغو الكلام، كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ق، وفي المسند من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)، وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: (يا رسول الله! إني مطاع في قومي فما آمرهم؟ قال: مرهم بإفشاء السلام، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم)، وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو حرفة لمعاش، أو لذة في غير محرم).

وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه).

ثم قال رحمه الله: وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه، وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته، والظاهر أن كثرة المضاعفة بحسب حسن الإسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)، فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله؛ كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما روي عن عطية عن ابن عمر أنه قال: نزلت {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:١٦٠] في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠]).

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.