للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المقصود بنفي الإيمان الوارد في الأحاديث]

السؤال

ما المقصود بنفي الإيمان الوارد في بعض الأحاديث؟

الجواب

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، كقوله في حديث الشعب: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان.

مثل الحديث الذي ذكر فيه إكرام الجار والضيف من أعمال البر، وهي من الإيمان.

قال: ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبة، فإن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، ونحو ذلك، فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر وعمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل، فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كتاب الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال ما فعله لا حقيقة ولا مجازاً.

وهذا واضح في أن نفي الإيمان يكون في أمر واجب، لكن كما هو معلوم أن تلك الأمور مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، لا شك أن الأمور التي تحصل محبة الإنسان لها متفاوتة، ليست كلها على حد سواء، لكن الإيمان لا ينفى إلا عن شيء واجب، كما قال شيخ الإسلام في هذا الكلام.

وقال في موضع آخر: وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه لم يكن معه ما أوجبه الله من الإيمان، فحيث نفى الله الإيمان عن شخص فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان، ويكون من المعرضين للوعيد، ليس من المستحقين للوعد المطلق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا)، كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الإثم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد السالمين من الوعيد.

وقال في موضع آخر: والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب، لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك، ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج والصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان).

كل هذا واضح في بيان أن نفي الإيمان يكون فيما هو واجب، وليس فيما هو مستحب.

وعلى هذا فالحديث الذي مر بنا والذي سئلت وقلت: إنه نفي للكمال المستحب، هذا خطأ والصواب أنه نفي للكمال الواجب.