للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العلاقة بين أقسام التوحيد الثلاثة]

فتوحيد الإلهية هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، فيجب أن يفرد فيها، ويأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية، لا لإثباته؛ فإنه ثابت عند المنكرين للإلهية، ولهذا يجيبون بالاعتراف به، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، فهم معترفون مقرون به، فيأتي في القرآن تقرير توحيد الربوبية للانتقال منه إلى الإلزام بتوحيد الإلهية، كما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠] أي: كيف تعبدون مع الله آلهة إذا كان هو المتفرد في الخلق والإيجاد؟! فإنه يلزمكم أن تفردوه في العبادة، وأن تخصوه بذلك وحده دون من سواه، وأن لا تجعلوا مع الله آلهة أخرى؟! وقد حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] أي أنّهم استنكروا هذا الشيء الذي يناقض ما وجدوا عليه الآباء والأجداد، ولهذا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى التوحيد وإلى الإيمان بالله -وذلك في آخر حياته- وكان عنده بعض الكفار في ذلك المجلس قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، وقالوا: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣]، فما عندهم إلا تقليد الآباء واتباعهم على ما هم عليه من تلك المعبودات، ولهذا قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، فتوحيد الربوبية يقرَّر في القرآن مع أن المنكرين للإلهية مقرون به، وذلك من أجل إلزامهم بأن يقروا بالإلهية كما أقروا بالربوبية، فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، ومن أقر بالربوبية فيلزمه أن يقر بالإلهية، فمن أقر بأن الله هو الخالق الرزاق وحده فعليه أن يعبد الله وحده، حيث يلزم من فعل هذا أن يفعل هذا.

وأما من وجد عنده توحيد الإلهية فهو مقر بالربوبية؛ لأنه لا يعقل أن يعبد الله وحده وهو جاحد لوجوده وربوبيته، بل إنّ عبد الله وحده فإنه يقر بأن الله هو الخالق وحده، فتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية.

فالخلاصة: أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وجد عنده توحيد الإلهية فقد وجد عنده توحيد الربوبية ضمناً، فلا يعقل أن يعبد الله وحده ويجحد ربوبيته، ولكن يمكن أن يقر بأن الله الخالق وحده ويعبد مع الله غيره، كما هو شأن الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وأما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، على وجه يليق بكماله وجلاله سبحانه وتعالى، دون تكييف أو تشبيه أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، بل على حد قول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فهذه الآية الكريمة فيها الإثبات والتنزيه، الإثبات في قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) والتنزيه في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فهو تعالى له سمع وبصر؛ لقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، لكن سمعه ليس كالأسماع، وبصره ليس كالأبصار؛ لقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فالآية مشتملة على الإثبات والتنزيه، أي: إثبات الصفات مع التنزيه عن مشابهة المخلوقات، فالمشبهة يقولون: له سمع كأسماعنا، وبصر كأبصارنا.

فهذا هو التشبيه، وأهل السنة يقولون: له سمع وبصر ليس كأسماع المخلوقين ولا كأبصارهم؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فيثبتون وينزهون، ولا يكيفون مع إثباتهم، فلا يقولون: صورته كذا وكذا ولا يتحدثون عن الكيفية، فإنه لا يعلم أحد عن ذلك شيئاً، وأما المعنى فإنه معلوم؛ لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمون معناه، ولم يخاطبوا بكلام غير معلوم ولا مفهوم، ولهذا عندما يأتي مثل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فإنهم يعلمون معنى السميع ومعنى البصير، وأن البصر يتعلق بكل المرئيات، والسمع يتعلق بكل المسموعات دقت أو جلت، ويعلمون أنّ (سمع) معناها غير البصر، فالبصر شيء والسمع شيء آخر، ويعلمون أن الكلام غير السمع والبصر، وأن القدرة غير اليد، وهكذا، فكل صفة لها معنى، ولهذا يقولون: إن الصفات متحدة من حيث الذات، ومتباينة من حيث المعنى.

فهي متحدة من حيث الذات بمعنى أن الله تعالى هو واحد بذاته وصفاته، ومتباينة من حيث المعنى، فمعنى السمع غير معنى البصر، ومعنى البصر غير معنى الكلام، ومعنى الكلام غير معنى القدرة، ومعنى القدرة غير معنى العزة، ومعنى العزة غير معنى الحكمة، وهكذا، فهذه كلها صفات متباينة من حيث المعنى، ومتحدة من حيث الذات؛ لأن الموصوف بها واحد، ولهذا إذا نفيت الصفات عن الله فلا يبقى له وجود، ولهذا يقول أهل السنة عن الذين ينفون الصفات: إنهم نافون للمعبود، فلا يتصور وجود ذات مجردة عن جميع الصفات، وعلى هذا فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، على وجه يليق بكمال الله وجلاله، دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، بل إثبات مع تنزيه، ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين المشبهة والمعطلة، فالمشبهة أثبتوا وشبهوا، والمعطلة نزهوا وعطلوا، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، فالمشبهة عندهم إثبات وتشبيه، والمعطلة عندهم تنزيه وتعطيل لازمه أنه لا وجود للرب، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، أثبتوا فلم يعطلوا؛ لأن الإثبات يقابل التعطيل، فبإثباتهم جانبوا طريقة المعطلة الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل حتى صار المعبود عندهم عدماً لا وجود له، فهم مثبتة وليسوا بمعطلة، ومع إثباتهم لم يكونوا مشبهة، بل منزهة، فقد فارقوا المعطلة بالإثبات، وفارقوا المشبهة بالتنزيه.

لذلك فأهل السنة هم المستمسكون بقول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فقد أثبتوا لقوله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، ونزهوا لقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، والله تعالى أعلم.