للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغالب في خبر كاد وعسى أن يكون مضارعاً

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ككان كاد عسى لكن ندر غير مضارع لهذين خبر] (ككان) جار ومجرور خبر مقدم.

(كاد) مبتدأ مؤخر.

لكن كيف أعربنا (كاد) مبتدأ مؤخراً، وأعربنا (كان) مجروراً؟

الجواب

لأن المراد لفظهما، وإذا كان المراد اللفظ ربما تكون الجملة كلها مجرورة.

إذاً: متى قصد اللفظ فإنه لا يهم أن يكون فعلاً، أو حرفاً، أو اسماً، أو جملة اسمية، أو جملة فعلية.

وقوله: (عسى) معطوف على (كاد)؛ فهي في محل رفع.

(لكن) حرف استدراك، وهي للعطف، بخلاف (لكنَّ) فإنها عاملة.

(ندر) أي: قَلَّ.

(غير) فاعل ندر، وهو مضاف إلى (مضارع).

(لهذين) جار مجرور متعلق بغير.

(خبر) فاعل ندر، يعني: قل أن يكون خبر غير مضارع لهذين الفعلين، وهما (كاد -وعسى).

يعني نقول: كاد زيدٌ قام، عسى زيدٌ قام، فهذا نادر، لأن الخبر إنما يكون فعلاً مضارعاً.

وكاد زيدٌ قام، وكاد زيد قم؛ هذا من النادر إن صح هذا التركيب.

قوله: (لكن ندر) استدراك هنا؛ لأنه قال: (ككان كاد) وظاهر هذا التشبيه أنهما يشبهان (كان) من جميع الوجوه؛ ولذلك استدرك.

فإن (كان) لا يتقيد خبرها بشيء؛ بل يكون اسماً، وظرفاً، وجار ومجروراً، ويكون فعلاً مضارعاً، ويكون فعلاً ماضياً.

أما هاتان الأداتان، فيقول: (ندر غير مضارع لهذين خبر).

مثال (كاد) قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]، فالخبر (يفعلون)، وهو فعل مضارع.

ومثال (عسى) قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦] فالخبر (تكرهوا)، وهو فعل مضارع.

لكن لو قلت: كاد زيدٌ قائماً، فهذا يكون من النادر لكنه ورد عن العرب.

عسى زيدٌ قائماً، كذلك نادر، لكنه ورد عن العرب.

لما ذكر أن (كاد وعسى) اشتركا في أن خبرهما يكون فعلاً مضارعاً، وأنه يندر ألا يكون فعلاً مضارعاً، ذكر اختلافهما من حيث اقتران (أن) بالخبر وعدمها، فقال: [وكونه بدون أن بعد عسى نزر وكاد الأمر فيه عكسا] (كون) مبتدأ -وخبره (نزر) - وهو مصدر (كان)، فيعمل عملها، واسم المصدر هو الضمير (الهاء) في قوله: (وكونه) فهو مصدر مضاف إلى اسمه.

و (بدون) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (كون)، و (بدون) مضاف، و (أن) مضاف إليه، وصحت الإضافة إليه مع أنه حرف؛ لأنه المقصود بذلك اللفظ.

(بعد) ظرف متعلق بمحذوف، والتقدير: كونه بدون أن بعد عسى واقعاً، ويكون المحذوف حالاً، و (بعد) مضاف، و (عسى) مضاف إليه، وصحت الإضافة إليه وهو فعل لأن المقصود لفظه.

و (نزر) خبر كونه.

(وكاد) مبتدأ.

(الأمر) مبتدأ ثان.

(عكسا) خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، والرابط: الضمير (فيه).

والمعنى: كاد عكس الأمر فيه؛ فالأكثر في خبره تجرده من (أن).

وخلاصة الأمر: أن (كاد وعسى) خالفتا (كان) في أن خبرهما يكون فعلاً مضارعاً، ويندر ما سواه، واتفقتا في أن الخبر يكون مضارعاً، واختلفتا في أن الأكثر في (عسى) اقتران الخبر بأن، وفي (كاد) العكس.

وفي القرآن: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]، {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠] فنجد أن الخبر مجرد من (أن).

وفي قول الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦]، نجد أن الخبر مقترن بأن، والقرآن أبلغ الكلام.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه يجوز أن يقترن الخبر بأن مع كاد، ويجوز حذف أن مع عسى، ومثاله قول الشاعر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب فالخبر (يكون)، والأفصح الكثير: أن يكون.

وفي كاد: كادت النفس أن تفيض عليه.

فهنا اقترن الخبر بأن، والأكثر أن يقال: كادت النفس تفيض عليه.

ونرجع إلى الإعراب: ففي قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]: (كاد) فعل ماضٍ ناسخ يعمل عمل كان، وواو الجماعة اسمه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع.

(يفعلون) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو فاعل، والجملة من الفعل والفاعل خبر كاد.

وقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة:٢١٦]: (عسى) فعل ماضٍ ناسخ يعمل عمل كان، فيرفع الاسم وينصب الخبر، واسمها ضمير الشأن مستتر، والتقدير: عسى الشأن كراهتكم شيئاً.

(أن) حرف مصدري.

(تكرهوا) فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعل.

(شيئاً) مفعول به لتكرهوا، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر عسى، والتقدير: عسى الشأن كراهتكم شيئاً وهو خيرٌ لكم.

والفرق بين (كاد) و (عسى) في المعنى أن (كاد) للمقاربة، وأما (عسى) فهي للترجي.

فإذا قلت: كاد الطالب يفهمُ، فالمعنى أنه قارب.

وإن كان في الطلبة من هو أبعد فهماً من هذا الطالب فأقول: عسى الطالب أن يفهم.

وبين العبارتين فرق اشتهر عند بعض النحويين وهو: أن إثبات (كاد) نفي وأن نفيها إثبات، فإذا قلت: كاد زيدٌ يفعلُ؛ فتدل الجملة على أنه لم يفعل.

وأن الله تعالى قال: (لم يكد يراها)؛ وهو قد رآها، وفي قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]، فيكون نفيها إثباتاً.

ولكن الصحيح أنها كغيرها من الأفعال، فإثباتها إثبات، ونفيها نفي، ولا يمكن أن يكون نفيها إثباتاً إلا بقرينه، والقرائن لها أحوال، وهذا الذي رجحه ابن هشام رحمه الله في المغني، فمثلاً إذا قلت: كاد الطالب يفهم فكاد تدل على أنه قارب الفهم.

إذاً: إثباتها إثبات.

وقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]، قالوا: إنهم ذبحوها، والله يقول: (ما كادوا يفعلون)، وهم قد فعلوا، نقول: لا يفهم أنهم فعلوا من قوله تعالى: (وما كادوا يفعلون)، إنما فهمناه من قوله: (فذبحوها)، وقوله تعالى: (وما كادوا يفعلون) على ما هو عليه يعني: ما قرب أن يفعلوا لكن بعد الأخذ والرد فعلوا.

إذاً: فقوله: (وما كادوا يفعلون) تشنيع عليهم، يعني: أنهم فعلوا بعد أن كادوا لم يفعلوا.

وأما قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠]، فعلى زعمهم أنه رآها، ولكن الآية لا تدل على هذا فالبحر لجي عميق، ويغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يقارب أن يرى يده.

إذاً: فنفيها نفي، وهذا هو الواقع، لكن لما كان الإنسان إذا قال (ما كاد يفعل) ظن أن (كاد) مسلطة على الفعل، والفعل لم يحصل، يعني: ظن هذا القائل بأن نفيها إثباتها وإثباتها نفي، حين ظن أن كلمة (كاد) مسلطة على الفعل، فقال: إن الفعل لم يقع، فنقول: إن كان ليست مسلطة على الفعل، بل أصل (كاد) بمعنى قرب، وليست بمعنى فعل، وإذا كانت بمعنى قرب فقولي: كاد يفعل، مثبت، أي: قرب أن يفعل، وإذا قلت: لم يكد يفعل، فمعناه: أنه لم يقرب من الفعل.

ومثلها: علمته ثم علمته ثم علمته ولم يكد يفهم، أي: ما فهم، لم يقرب من الفهم.

والراجح عندي كلام ابن هشام، وأنها كغيرها من الأفعال، نفيها نفي وإثباتها إثبات، إلا إذا دلت القرينة، والقرائن لها أحوال.

(وعسى) للترجي، تقول: عسى محمد أن يفهم، وقد تأتي لغير الترجي، ومن ذلك إذا جاءت في كلام الله كقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:٩٨ - ٩٩]، فالله تعالى لا يترجى، لأن كل شيء بأمره؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (عسى من الله واجبة)، أي: أنها للتحقيق، لكن ما الحكمة أنها جاءت بصيغة الترجي؟ لئلا يهلك الإنسان الأمل، فكأن المعنى: لو تاب الإنسان أو كان معذوراً عسى الله أن يعفو عنه، فلئلا يهلكك الأمل فتعتمد على إنجاز الله سبحانه وتعالى لك ما وعدك به.

فصارت (عسى) للترجي إلا إذا جاءت في كلام الله فإنها تكون للتحقيق، لقول ابن عباس رضي الله عنهما وهو من أئمة اللغة بلا شك: (عسى من الله واجبة).