للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معاني (من) من حروف الجر]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بعض وبين وابتدئ في الأمكنة بمن وقد تأتي لبدء الأزمنة وزيد في نفي وشبهه فجر نكرة كما لباغ من مفر] بدأ المؤلف بذكر معاني حروف الجر، واختصاص كل واحد بمعنى، فقال: (بعض وبين وابتدئ) فهذه ثلاثة معان: بعض: التبعيض.

بيِّن: التبيين.

ابتدئ: الابتداء.

(في الأمكنة بمن) من: حرف جر.

فقوله: (بعِّض) معناه أنها تأتي للتبعيض، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:١٦٥] أي: بعض الناس.

قوله: (بيِّن) معناه أنها تأتي للبيان، مثل أن تقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:٦] فإن قوله: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) لبيان الجنس؛ أي: لتمييز هؤلاء من هؤلاء، وليست للتبعيض؛ لأن كل أهل الكتاب كفار بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما قبل ذلك، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر.

أما قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:٢] فهي للتبعيض.

وكذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:١٠٥] للتبعيض، يعني: فبعضهم شقي، وبعضهم سعيد.

والغالب أن (مِنْ) البيانية تأتي بياناً لاسم موصول، أو لأداة شرط، أو استفهام، أي: تأتي بعد الأسماء المبهمة، فكلما دخلت (من) على أسماء مبهمة فهي للتبيين، سواء كان هذا الإبهام في الشرط أو في الاستفهام أو في الموصول.

قوله: (وابتدئ في الأمكنة): يعني: وتأتي (من) أيضاً للابتداء في الأماكن، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١]، والمسجد الحرام مكان.

وتقول: هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، أي أن ابتداء هجرته كان من مكة.

وتقول: سرت من البيت إلى المسجد، ورجعت من المسجد إلى البيت.

قوله: (وقد تأتي لبدء الأزمنة) يعني: قد تأتي أيضاً للابتداء في الزمان، وقوله: (قد) هذه للتقليل، إذاً: فالأكثر في (من) إذا كانت للابتداء أن تكون في الأمكنة.

ومثال مجيء (من) للابتداء في الزمان: جلست عندك من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء.

فالقاعدة التي في البيت الأول: أن (مِنْ) تأتي لثلاث معان: للتبعيض والتبيين والابتداء، والابتداء في الأمكنة أكثر منها للابتداء في الأزمنة.

إعراب البيت: بعض: فعل أمر.

وبيَّن: الواو حرف عطف، وبيَّن فعل أمر أيضاً.

وابتدئ: فعل أمر، والأصل في الأمر الوجوب.

في الأمكنة: جار ومجرور متعلق بابتدئ.

بمن: جار ومجرور متنازع فيه بين الأفعال الثلاثة: (بعض وبين وابتدئ)، فهو متعلق بابتدئ عند أهل البصرة، لأنه أقرب، واختار عكساً غيرهم ذا أسرة.

وما لم يعمل في المتنازع فيه عمل في مضمر مقدر، كما قال ابن مالك: وأعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه والتزم ما التزما ولا تجي مع أول قد أهملا بمضمر لغير رفع أوهلا وعلى هذا نقول: المعمل هو الأخير في هذا البيت، وهو قوله (ابتدئ)؛ لأننا لو أعملنا الأول لوجب أن نضمر في الثاني والثالث، وهنا لم نضمر فيكون الإعمال للأخير.

ثم قال: (وزيد في نفي وشبهه).

وهذا هو المعنى الرابع لـ (مِنْ) وهو أن تكون زائدة، وهي تزيد في اللفظ، وتزيد أيضاً في المعنى؛ لأنها تعطيه قوة.

ولعل هذا التعبير غريب؛ لأن المعروف أننا نقول: زائدة لفظاً لا زائدة معنى، وقصدهم (لا زائدة معنى)، أي: ليست خالية من المعنى؛ لكن الذي قالوا: إنها زائدة لفظاً زائدة معنى فقصدهم أنها تزيد المعنى قوة.

يقول: (وزيد في نفي وشبهه)، النفي واضح، ويكون بما، ولا، وليس وما أشبهها.

وشبه النفي هو النهي والاستفهام الذي بمعنى النفي.

وأنا عندي شك في كلام ابن مالك من جهة اللفظ: (زِيد) لأنه قال عنها: (وقد تأتي) بالتأنيث؛ فكيف يجعلها مؤنثة، ثم يقول: (زيد) فيجعلها مذكرة؟ نقول: إذا اعتبرنا اللفظ فهي مذكرة، وإذا اعتبرنا أنها أداة جر فهي مؤنثة.

وعليه فقوله: (وقد تأتي) أي هذه الأداة، وهي باعتبار اللفظ مذكرة، يعني: زيد حرف مِنْ، والمعنى: أتى زائداً في نفي وشبهه.

قوله: (فجر نكرة)، جر: فعل ماض فاعله مستتر، ونكرة: مفعول جر.

مثاله: (كما لباغٍ من مفر) من زائدة؛ لأن الكلام يستقيم لو قلت: ما لباغٍ مفر، بحذف مِنْ.

والإعراب: ما: نافية.

لباغٍ: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.

من: زائدة.

مفر: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

و (ما) هنا ملغاة لا تعمل عمل ليس؛ لتقدم الخبر، كما قال ابن مالك: إعمال ليس أعملت ما دون إن مع بقا النفي وترتيب زكن إذاً: هذه ملغاة؛ وذلك لأن خبرها متقدم، ومن شرطها أن يتقدم الاسم.

فالقاعدة من البيت: أن (من) تزاد بشرطين: أولاً: أن يتقدمها نفي أو شبهه.

والثاني: أن يكون مدخولها نكرة.

ومثالها: ما لباغ من مفر.

نأخذ أمثلة أيضاً: قال الله تعالى: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:١٩]، (من) هنا زائدة لسبقها بما ودخولها على نكرة (بشير).

وعلى هذا فنقول: جاء: فعل ماض ونا: مفعول به مبني على السكون في محل نصب.

من: حرف جر صلة، ولا نقول (زائد) لئلا يظن أحد أن في القرآن لغواً.

بشير: فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

ومثال الاستفهام: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم:٩٨]، وتكررت (من) هنا مرتين، لكن الزائدة هي الثانية، لأن الثانية داخلة على نكرة، والأولى على معرفة.

هل: حرف للاستفهام.

تحس: فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره أنت.

منهم: جار ومجرور.

من: زائدة.

أحد: مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

ومثال النهي: لا تضرب من أحد من الطلبة.

الشاهد في قوله: (من أحد)، من: حرف جر زائد، وأحد: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

أما قوله تعالى: {ِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم:١٠] فهي تبعيضية.

وحملها بعض النحويين على قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، فجعل (من) زائدة، وقال: يجوز دخولها زائدة على معرفة، واستدل بالآية.

ونحن نقول: لا نوافقك على هذا الشيء؛ لأنك إذا تأملت: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وجدت الخطاب موجهاً إلى هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف:١٠ - ١٢].

إذاً: فهي للعموم، وكل ذنوبنا مغفورة بهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى، وإذا تأملت: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف:٣١] وجدتها إما من كلام الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١]، ولم يجزموا بغفران الذنوب جميعاً؛ لأنهم إنما يرجون ذلك رجاء.

ووجدت أيضاً أن ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) جاءت في كلام نوح، في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:٤]، وهذا إما أن يقال: إن هذه الأمة فضلت على قوم نوح بمغفرة جميع ذنوبها، أو يقال: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قال لقومه هذا لأجل أن يرجيهم.

المهم أنه لا يمكن أن نحمل هذه على هذه مع اختلاف المعنى، فالصحيح إذاً كما قال ابن مالك إن (من) تزاد بشرطين كما تقدم.