للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المفهوم الصحيح للعبادة]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها.

عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ربكم: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان، إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين، يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان، اللهم عجل لمنفق خلفاً وعجل لممسك تلفاً)].

هذا باب آخر من كتاب التوبة والزهد في كتاب المنذري، الترغيب والترهيب، وفيه الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تبارك وتعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها.

والمؤمن يعلم الحكمة من خلقه في هذه الدنيا، حيث قال الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] فسبب خلق الإنسان ووجوده في هذه الدنيا، هو عبادة الله سبحانه، والعبادة هنا بالمعنى الأعم، فتكون الحياة كلها لله سبحانه وتعالى، فيكون في صلاته، وصيامه وزكاته وحجه وعمرته واعتكافه؛ مراقباً لله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه كلها أعمال عبادية يتعبد بها لله سبحانه.

وكذلك يكون في معاملاته مع الخلق مراقباً لله سبحانه وتعالى، فهو يراقبه تعالى في تجارته وبيعه وشرائه وإجارته ووكالته وكفالته وضمانه وأمانته ووديعته.

فهو يراقب الله تبارك وتعالى دائماً في كل عمل من الأعمال؛ لأنه يستشعر أنه يعبد الله بهذا العمل، فإذا باع واشترى استشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)، فإذا استشعر ذلك فإنه يتعامل مع الناس بناءً على هذا الشعور.

فمن يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا تعامل مع الناس تعامل بحسن الخلق، لا ليقال: خلقه حسن -وإن كان من الحسن أن يمدح الإنسان وهو لا يطلب ذلك- وإنما يطلب ما عند الله سبحانه، فإن صاحب الخلق الحسن يكون يوم القيامة في درجة عظيمة جداً بجوار النبي صلوات الله وسلامه عليه بجوار باقي النبيين عليهم السلام.

فالعبادة التي نحن مخلوقون لها ليست هي الصلاة وحدها -وإن كانت الصلاة من أعظم العبادات- ولكن العبادة التي خُلقنا من أجلها هي العبادة بمعناها الأعم، فيدخل فيها العبادات والمعاملات وأحوال الإنسان مع أهله وغيرهم.

فإذا علم العبد هذا فإنه سيفرغ نفسه لهذه العبادة، فإذا به يراقب ربه ليل نهار، فيكون نومه وقيامه عبادة لله سبحانه، فهو عندما ينام إنما ينام ليستريح ويتقوى ليؤدي عبادة الله سبحانه وتعالى ويقيم الصلاة في أوقاتها، وهكذا لا يزال هذا العبد ينتظر عبادة وراء عبادة مدى حياته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]، فالمؤمن يقول لنفسه: إني أمرت بذلك وأنا من المسلمين.

والتفرغ للعبادة ليس معناه أن تحبس نفسك في البيت للصلاة والصوم فقط وتترك العمل، وإنما العبادة التي نذكرها هي العبادة بمعناها الأعم وهي أنك تصلي وتصوم وتزكي وتحج وتعتكف وتجاهد وتتعامل مع الناس بالخلق الحسن وأنك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحسن إلى الخلق وتصلح بين الناس بعضهم مع بعض وتعين الإنسان فتدله على الطريق أو تعينه في رفع حاجته على دابته، فكل ذلك من العبادة، فإذا تفرغت للعبادة بهذا المعنى، فالله عز وجل سوف يرزقك من حيث لا تحتسب.

وكذلك إذا خرجت لطلب الرزق وأخلصت النية لله ونويت أن تطعم أولادك المال الحلال، فإن الله سبحانه وتعالى لن يتركك بغير رزق، بل الله عز وجل هو الرزاق الكريم سبحانه وتعالى قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:٥٦ - ٥٧]، أي: أنه لم يخلقك من أجل أن ترزقه ولا من أجل أن تطعمه تبارك وتعالى، وإنما خلقك ليطعمك أنت ويعطيك.