للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على من يمنع انتفاع الميت بعمل الحي]

قول المؤلف رحمه الله: (ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩])، فهذه احتج بها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم على أن الميت لا ينتفع إلا بسعي نفسه فقط، وقالوا: لا ينتفع الميت لا بالدعاء ولا بالصدقة ولا بالحج ولا بالعمرة، ولا ينتفع إلا بما تسبب فيه في الحياة كالعلم الذي ينتفع به، أو ولد صالح، كما جاء في الحديث، وكذلك الصدقة الجارية، واحتجوا بهذه الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] وقالوا: إن المعنى: لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه، وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإنسان ينتفع بسعيه وبسعي غيره إذا وهبه له، وأجابوا عن هذه الآية بجوابين ذكرهما المؤلف رحمه الله هما: الجواب الأول: أنه ثبت أن هذه الآية ليس فيها دليل على منع الإنسان من الانتفاع بسعي غيره، وقد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه: كدعاء الملائكة، والاستغفار له، كما في الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧]، وينتفع بدعاء النبيين، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:١٠٣]، وقوله سبحانه: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:٩٩] فتنفعهم صلوات الرسول، وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:١٩]، وينفعه دعاء ولده أيضاً، وكذلك دعاء المصلين عليه، ودعاء زائر القبور.

الجواب الثاني: أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩] لم ينف الانتفاع وإنما نفى الملك، وفرق بين نفي الملك ونفي الانتفاع، والمعتزلة قالوا: الآية فيها حصر فقوله تعالى: {لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٩]، يدل على أنه لا ينتفع الإنسان إلا بسعيه.

وفي الجواب الثاني نقول: الآية ليس فيها نفي الانتفاع وإنما فيها نفي الملك، فاللام للملك، والمعنى: لا يملك الإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو لغيره، إن أبقاه لنفسه فهو لنفسه، وإن وهبه لغيره انتفع به، فأنت لا تملك إلا سعيك وأما سعي غيرك فهو ملك لذلك الغير، إن أبقاه لنفسه فهو له وإن وهبه لغيره انتفع به، ولهذا قال المؤلف: (لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائماً يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم)، فهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد ليثيب أولئك على تلك الأسباب فيرحم الجميع، مثل: الإنسان إذا دعا لأخيه فله أجره حينما دعا لأخيه والميت ينتفع بهذا الدعاء، وإذا تصدق عن أخيه له أجر؛ لأنه أحسن لأخيه وصار الثواب للمتصدق عنه، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، فإذا دعوت لأخيك فلك مثلها، والحديث صحيح رواه مسلم وغيره.

فإذا دعوت لأخيك المسلم أجابك ملك وقال: آمين ولك بالمثل، أي: اللهم استجب ولك أيها الداعي مثل ذلك من الأجر، فتكون دعوت لأخيك واستفاد أخوك من دعائك وأنت تستفيد وتعطى مثل ذلك.

وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان أصغرهما مثل أحد)، فالذي يصلي على الجنازة له قيراط من الأجر فاستفاد هو، والميت استفاد بأن يشفعه الله فيه، فانتفع الحي والميت؛ ولهذا قال: (فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له ويرحم الميت أيضاً بدعاء هذا الحي له).

<<  <  ج: ص:  >  >>