للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شبهة الملاحدة من القرامطة والإسماعيلية والنصيرية وغيرهم في دين الرسل والرد عليهم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وربما احتج بعضهم بقوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:١٦].

فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفاً إذا كان هناك مُخوف يمكن وقوعه بالمخوَّف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له كما يوهم الصبي الصغير، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين؛ لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مَخوْف زال الخوف.

وهذا شبيهٌ بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريق].

يعني: هؤلاء الملاحدة الذين ينكرون العذاب ويقولون: ليس هناك عذاب ولا نار، بعضهم يحتج بقوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:١٦]، قالوا: النصوص التي فيها العذاب هي للتخويف فقط، وإلا ليس هناك نار ولا عذاب، فالمؤلف رحمه الله أجاب عليهم وقال: إن قوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:١٦] يعني: الله يخوف عباده بشيء له حقيقة؛ لأنه لا يسمى تخويفاً إلا إذا كان له حقيقة، ولهذا يقول: (فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفاً إذا كان هناك مخوف) وهو النار يخوف بها (يمكن وقوعه بالمخوف، فإذا لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف)؛ لأنه إذا لم يكن هناك نار فليس هناك تخويف، وإنما هو إيهام الخائفين بما لا حقيقة له كما يوهم الصبي الصغير، ويقال له: إذا فعلت كذا حصل لك كذا وكذا، وهو إيهام، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين، إنما يحصل التخويف للصبيان الصغار الأطفال، أما العقلاء المميزون فلا يخوفون بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف.

يقول المؤلف: (وهذا شبيه بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة) الملاحدة أقسام: ملاحدة المتفلسفة، وملاحدة القرامطة، وملاحدة الصوفية، وهؤلاء الذين يقولون: إن العذاب تخويف لا حقيقة له يشبه قول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة الذين يقولون: الرسل يسوسون الناس، ويقولون: النبي رجل عبقري عنده ذكاء وعنده كذا ويسوس الناس، ويخبرهم أن هناك جنة وناراً وملائكة، وهذا لا حقيقة له، وإنما هي أمثال مضروبة تناسب العوام، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، وليس هناك أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام عند هؤلاء الملاحدة والعياذ بالله.

ويقول بعضهم: إن هذه من سياسة النبي، وهو رجل عبقري، يسوس الناس ويخوفهم بأن هناك عذاباً وناراً وجنة؛ حتى يتعايش الناس بسلام، وحتى لا يعتدي أحد على أحد، ولهذا قال بعض الملاحدة: إن النبي فيلسوف العامة، وأما الفيلسوف فهو نبي الخاصة، ولهذا قال بعضهم: أنا لا أريد النبوة، أي فهو يريد شيئاً أعلى من النبوة وهي الفلسفة، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة، وأما النبي فهو يسوس العامة، وفرق بين سياسة الخاص وسياسة العام، فالفلاسفة جعلوا أنفسهم أعلى من الأنبياء نعوذ بالله، وكفر هؤلاء فوق كفر الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:١٢٤].

فهؤلاء الملاحدة يقولون: الرسل خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، لكن من أجل مصلحتهم في الدنيا؛ لأنه لا يمكن تقويمهم ولا إصلاحهم إلا بالكذب، ويقولون: الأنبياء كذبوا على الناس لمصلحتهم، ويقولون: هناك فرق بين من يكذب لك ومن يكذب عليك، فالأنبياء كذبوا للناس لا على الناس، كذبوا لمصلحة الناس، ولم يكذبوا عليهم؛ لأنه لو لم يكذبوا لهم لصار بينهم نزاع وقتل واختلت أمورهم، وقد يبغي بعضهم على بعض، فإذا كذبوا لهم قالوا: هناك جنة وهناك نار وهناك قصاص صلحت أحوالهم واستقاموا، هكذا يقولون! نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علمو زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن؛ حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون، فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية.

ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول صلى الله عليه وسلم وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوماً لطاعة أمره سراً وعلانية، ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه أقرب، وبه أخص، وبباطنه أعلم، كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كانا أعظمهم لزوماً لطاعته سراً وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم باطناً وظاهراً].

يعني: أن قول هؤلاء الملاحدة: إنه ليس هناك جنة ولا نار وإنما هو تخويف، وكذلك قول ملاحدة الفلاسفة والقرامطة: إن الرسل جاءوا بالإخبار عن الجنة والنار من باب استصلاح الناس، وإلا فليس هناك جنة ولا نار، هذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة في دين الرسل، لو كان الأمر كما يزعمون لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، و (لو) حرف امتناع لامتناع، وهذا هو الشرط التقديري، والشرط التقديري لا يمكن حصوله، ولا يمكن القول به، مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، فهذا من باب التقدير.

والمعنى: لو كان الأمر كما يزعم هؤلاء أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما لبس على الناس لأجل مصلحتهم وليس هناك جنة ولا نار، لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون الحقيقة، وخواص الرسل هم الملازمون للرسل، فلو كان الأمر كما يقولون وأن الرسل إنما كذبوا على الناس، لكان خواصهم الملازمون لهم مثل خواص النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بكر وعمر وغيرهما يعلمون الحقيقة، ويعلمون الباطن، وإذا علموا بذلك ما تعبدوا ولا عملوا أعمالاً صالحة، ولفعلوا المنكرات؛ لأنهم يعلمون حقيقة من لازموه، وهذا من أبطل الباطل، فإن خواص الأنبياء هم أعظم الناس محافظة على أوامر الله وأوامر رسله وأنبيائه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي) يعني: لما امتثلوا الأمر ولا اجتنبوا النهي؛ لأنهم يعلمون الحقيقة، (كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة)، فحالهم حال سيئ؛ لأنهم يعتقدون في الباطن الإلحاد والزندقة، ولذلك لا يلتزمون بالشرائع، ومن هؤلاء الإسماعيلية والنصيرية، فهم يدعون أن الله حل في علي.

يقول: (فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي) أي: البارع من هؤلاء الملاحدة الإسماعيلية والنصيرية لا يمتثل الأوامر ولا النواهي، وتباح له جميع المحرمات، وتسقط عنه الواجبات، وتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن حتى سموهم باطنية؛ لأن الباطنية يقولون: ليس هناك صلاة ولا صيام ولا زكاة، ويقولون: الصلاة لها ظاهر ولها باطن؛ ظاهرها الصلوات الخمس التي يصليها المسلمون، وهؤلاء يسمونهم عامة، والباطن عندهم خمسة أسماء: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحسن خمسه أسماء تعدها.

والصيام عندهم له باطن وله ظاهر، ظاهره صوم المسلمين شهر رمضان ويسمونهم عامة، والباطن كتمان أسرار المشايخ.

والحج عندهم له ظاهر وله باطن، الحج الظاهر هو الحج إلى بيت الله الحرام، والباطن زيارة قبور مشايخهم.

هؤلاء هم الملاحدة يقول: (فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين لازموا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أعلم بباطن الرسول صلى الله عليه وسلم وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، وكانوا أعظم لزوماً في طاعة أمره سراً وعلانية، ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه أقرب وبه أخص وبباطنه أعلم كـ أبي بكر وعمر كانوا أعظم الناس لزوماً للطاعة سراً وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب واجتناب المحرم باطناً وظاهراً، فدل هذا على كذب ما يقوله هؤلاء وأنهم ملاحدة).

<<  <  ج: ص:  >  >>