للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صفة القرب لله تعالى]

وقوله في آخر الحديث: (وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وفي لفظ: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً)، وهذا فيه إثبات القرب لله، فالحديث فيه إثبات المعية والقرب والقرب، جاء خاصاً ولم يأت عاماً عند بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

والقرب نوعان: قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة، فالأول مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:١٨٦] أي: قريب لإجابة دعاء الداعين، ولم يقل: إني قريب من كل أحد، ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فهو قريب من الداعي، وليس فيه أنه قريب من كل أحد، ومثله قول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:٦١] أي: من المستغفرين التائبين وهذا هو النوع الثاني: وهو القرب من العابدين بالإثابة، وهو كقوله سبحانه عن شعيب أنه قال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:٩٠]، فهو رحيم ودود بالمستغفرين التائبين، كما أنه قريب من العابدين، مجيب للسائلين، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] فهذا قرب الملائكة من العبد، فالملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، بدليل أنه قيده بوقت تلقي الملكين، فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:١٦ - ١٧] أي: نحن أقرب إليه وقت تلقي المتلقيان ولو كان المراد قرب الله لم يقيد بوقت تلقي الملكين، ومثله قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٥] قال العلماء: المعنى: أن الملائكة أقرب إلى قلب العبد من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة.

وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، كالمعية تكون عامة وخاصة، وأن القرب الخاص مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:١٨٦]، وحديث أبي موسى، ومن القرب الخاص قرب العبد من الله بالإثابة في قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:١٩]، فالساجد قريب من الله؛ لأنه عابد لله.

وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، ومثلوا للقرب العام بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦] وقالوا: هذا قرب الله، والمعنى نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، وقال بعضهم: نحن أقرب إليه بالعلم والرؤية، وقال بعضهم: بالعلم والرؤية والقدرة، وكذلك قالوا في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:٨٥]، لكن المحققين كـ شيخ الإسلام وابن القيم قالوا: إن القرب لا يأتي إلا خاصاً ولا يأتي عاماً، وإن المراد بالقرب في الآيتين قرب الملائكة.

فهذا الحديث القدسي فيه إثبات أن لله نفساً وكذلك المعية والقرب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن تقرب العباد من الله تقر به جميع الطوائف، وجميع من يثبت العلو لله تعالى، أما من أنكر علو الله فهو ينكر هذا القرب.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، قال شيخ الإسلام: وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.

والدليل الثاني من السنة الذي استدل به المؤلف رحمه الله على إثبات أن لله نفساً هو حديث أبي هريرة، قال: (وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، ووجه الدلالة قوله: (فكتبه على نفسه)، فأثبت لله نفساً كما أن الحديث فيه صفة الرحمة، والغضب، والحديث سبق في مبحث العلو، قال ورواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش)، وهنا ذكر نفس الحديث قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، واستدل به هناك على العلو، وليس فيه: (فكتبه على نفسه) واستدل به هنا على إثبات النفس وكلمة: (فكتبه على نفسه)، ليست في الكتب الستة، وعلى هذا فيكون الحديث ليس فيه دليل على إثبات أن لله نفساً، ويكتفى بالأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>