للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثبوت الشفاعة العظمى للنبي يوم القيامة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع للمذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها؛ فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) رواه البخاري، وروى حديث الشفاعة بطوله أبو بكر الصديق وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو موسى عبد الله بن قيس وأبو هريرة وغيرهم].

الشفاعة في اللغة: الوساطة، وشرعاً: ضم الشفيع نفسه إلى المشفوع له، فيكون شفعاً بعد أن كان وتراً، فإذا دعاك إنسان يريد شيئاً ثم ضممت صوتك إلى صوته شفعت له، فصرت أنت وهو اثنين بعد أن كان واحداً، أو كان يطلب حاجةً ثم شفعت له وضممت نفسك إليه، صرتما اثنين والاثنان شفع، وضم الشفيع نفسه إلى غيره؛ ليكون شفعاً بعد أن كان وتراً، والاثنان شفع والواحد وتر، وقيل في معنى الشفاعة: طلب الخير للغير، وقيل: مساعدة ذي الحاجة عند من يملك الحاجة، والشفاعة تكون يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتيه الناس ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله أن يحاسبهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يضم صوته إلى صوتهم ويساعدهم ويطلب من الله أن يقضي بينهم، فيكون عليه الصلاة والسلام شفع للخلائق، أي: ضم صوته إلى صوتهم وساعدهم وطلب من الله أن يقضي بين العباد؛ وذلك بعد أن يأتيه الإذن بذلك.

والشفاعة لها شرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له، فلا يمكن لأحد أن يشفع، حتى لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أوجه الناس عند الله، وإذا كان موسى عند الله وجيهاً قال الله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:٦٩]، فمحمد أعظم وجاهة، ومع ذلك لا يستطيع -وهو أفضل الخلق- أن يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد التي يلهمه إياها ولا يحسنها في دار الدنيا، ثم يأتيه الإذن من الرب سبحانه وتعالى فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، فيرفع محمد رأسه ويقول: يا رب! أسألك أن تقضي بين عبادك، فيشفعه الله فيهم)، فيقضي بين الخلائق.

ونبينا عليه الصلاة والسلام له شفاعة خاصة، وله شفاعة يشاركه فيها غيره، فالشفاعة الخاصة هي الشفاعة العظمى التي تكون لأهل الموقف حينما يوقف الناس بين يدي الله للحساب حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، بهماً ليس معهم شيء، ويشتد الحر، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها فيكون يوم عظيم، فيموج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون أولاً إلى آدم ويطلبون منه أن يشفع لهم فيعتذر، ويقول: أكلت من الشجرة، لا أستطيع، اسألوا غيري، ثم يرشدهم إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد دعوت على قومي دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام، فيأتون إبراهيم فيسألون الشفاعة فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب غضباً قبله مثله ولن يغضب غضباً بعده مثله، وإني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، أجادل بهن عن دين الله، وهي قوله عن زوجته: إنها أختي أي بالإسلام، وعندما كسر الأصنام جعل الفأس على الصنم الكبير وقال: بل فعله كبيرهم، ونظر في النجوم وقال: إني سقيم إيهاماً لهم، وهذه الأقوال جعلها كذبات وهو يجادل بها عن دين الله، ومع ذلك يعتذر عليه الصلاة والسلام ويقول: كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، ثم يقول: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيذهبون إلى موسى فيقولون: يا موسى! اشفع لنا إلى ربك فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وذلك لما قتل القبطي قبل النبوة وقد تاب قبل النبوة، ومع ذلك يعتذر ويقول: اذهبوا إلى عيسى فإنه روح الله، فيذهبون إلى عيسى فيعتذر أيضاً ولا يذكر ذنباً إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد ويلهمه الله إياها -وقد كان لا يحسنها في دار الدنيا- ثم يستأذن من الرب، فيقول الله: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب أسألك أن تقضي بين عبادك فيقول الرب: أنا أقضي بينهم، هذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩])، المقام المحمود هو الشفاعة، وجاء في بعض الأحاديث أن المقام المحمود هو: أن يجلسه معه على العرش، وهذا ما استدل به بعض أهل السنة وغيرهم، وإن صح ذلك فإن المقام المحمود يكون شيئين: الشفاعة، وإجلاسه على العرش، وهذان الشيئان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وهما المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون وهذا هو الفخر والعز، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أنا أول من تشق عنه الأرض، وأنا أول شفيع) عليه الصلاة والسلام، وهذه خاصة به لا يشاركه فيها أحد.

وهناك شفاعة ثانية، وهي الإذن لأهل الجنة في دخولها، إذ لا يدخل أهل الجنة الجنة حتى يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم في دخولها وهذه خاصة به.

وهناك شفاعة ثالثة: وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، فقد مات على الكفر وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، بل قال: هو على ملة عبد المطلب، لكن خفف عذابه لإيوائه للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه، فيشفع له النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخفف عنه العذاب، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا رسول الله! إن أبا طالب يحميك ويذود عنك، فهل نفعته؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها يغلي دماغه من النار)، أي: كانت تغمره النار من جميع الجهات فأخرج إلى ضحضاح من نار يغلي منها دماغه، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً من شدة ما يجد وهو أخفهم، هذه شفاعة تخفيف خاصة به.

وهناك شفاعات مشتركة، منها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة حتى ترفع درجاتهم من درجة سفلى إلى درجة عليا، والشفاعة في قوم من عصاة الموحدين استحقوا دخول النار فيشفع ألا يدخلوها فيشفعهم الله لهم، والشفاعة في قوم دخلوا النار فيخرجون منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ألا يدخلوا النار.

وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل النار جملة أهل الكبائر) من المؤمنين الموحدين، فلا تأكل النار منهم مواضع السجود، لكنهم دخلوا النار بسبب الكبائر التي ماتوا عليها ولم يتوبوا منها، فهذا دخل النار؛ لأنه مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على الربا من غير توبة وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على قطيعة الرحم، وهذا مات على الغيبة، وهذا مات على النميمة، وهذا مات على أكل مال الناس بالباطل، وهذا مات على شهادة الزور، فمنهم من يعفى عنه، ومنهم من يدخل النار يعذب فيها مدة طويلة أو قليلة على حسب ذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيهم.

أربع شفاعات، كل مرة يحد الله له حداً ولهذا جاء في الروايات (أنه يشفع في من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال نصف دينار)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)، ويشفع الأنبياء والشهداء والصالحون والأفراط، والملائكة، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، ويقول: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرجون من النار لم يعملوا خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان.

فإذا تكامل خروج العصاة الموحدين، ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم، اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والملاحدة والمنافقين، فلا يخرجون منها أبد الآباد، يقول تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:٢٠] يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:٣٧]، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧]، وقال سبحانه: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:٢٣]، والأحقاب جمع حقب والحقب هو المدد المتطاولة، كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية له.

والمؤمنون الذين خرجوا من النار يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.

فهذه هي الشفاعات الست أو السبع الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها مشتركة، وأهل السنة والجماعة وأهل البدع واتفقوا على الشفاعة العظمى، والشفاعة التي هي لأهل الجنة في دخولها، والشفاعة التي في رفع درجات أهل الجنة، واختلفوا في الشفاعات

<<  <  ج: ص:  >  >>