للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة على إثبات صفة النزول لله عز وجل]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وفي لفظ: (ينزل الله عز وجل).

ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة ولا نزول الملك].

هذا الحديث صحيح رواه الإمام مالك في موطئه، ورواه البخاري رحمه الله في مواضع من صحيحه في كتاب التهجد وفي كتاب الدعوات وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:١٥]، ورواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، ورواه الإمام أحمد في مواضع من مسنده، ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة باب في الرد على الجهمية، ورواه الترمذي في كتاب الدعوات، ورواه ابن ماجة في كتاب الإقامة، ورواه غيرهم، وهو من الأحاديث المتواترة، وفيه: (إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، ولا يتكلف الإنسان ويتحذلق مثلما يقول بعض الناس: إن الليل يختلف في الأماكن، فيكون في مكان ثلث الليل الآخر، ويكون في بلاد أخرى نهار أو صبح أو بعد الظهر، ثم يأتي ثلث الليل الآخر فلا يزال الرب ينزل، هكذا يفسر بعض الناس النزول، فالإشكال الذي في ذهنك الآن وقع بسبب التمثيل، فاترك التمثيل حتى يزول الإشكال، فنقول: إن الله ينزل ولا نعرف كيف، فلا نكيف، فهذا النزول يليق بجلال الله وعظمته، فلا نكيف ولا ندري ما الكيفية، فإذا كنت في أي مكان من أرض الله فإذا جاء ثلث الليل الآخر فهذا وقت التنزل لله، فتضرع إلى الله وادعه سبحانه.

يقول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة ولا نزول ملك).

هذا تأويل المتأولين، قال بعض المتأولين: ينزل الله أي قدرته، وبعضهم قال: تنزل الرحمة، وبعضهم يقول: ينزل ملك، وهذا من أبطل الباطل، فالرحمة نزولها في كل وقت، وليس نزولها مخصصاً في ثلث الليل، وكذلك الملك لا يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! هل يمكن لمخلوق أن يقول: من يدعوني فأستجيب له؟! من يستغفرني فأغفر له؟! من يسألني فأعطيه؟! لا يقول هذا إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يعلم بطلان تأويل المبتدعة بأن نزول الله معناه نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك، هذا من أبطل الباطل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما روى مسلم بإسناده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يضيء الفجر)].

هذه إحدى روايات الحديث عند الإمام مسلم، ورواه أيضاً الترمذي في سننه في كتاب الصلاة بلفظ: (حين يمضي ثلث الليل)، وفي بعضها: (حتى يمضي نصف الليل)، كما سيأتي في إحدى الروايات.

وسهيل بن أبي صالح هو ابن ذكوان السمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى رفاعة بن عرابة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحداً غيري، من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يدعوني أستجيب له؟ من ذا الذي يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر الصبح) رواه الإمام أحمد.

وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول، ويدحضان حجة كل مبطل].

هذا الحديث من حديث رفاعة بن عرابة، ويقال: عرادة الجهني، ويقال: إن عرادة اسم جده، والحديث رواه الإمام أحمد -كما قال المؤلف- في مسنده، ورواه ابن ماجة في سننه، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية.

وذكر المؤلف ثلاث روايات في وقت النزول، حين يمضي ثلث الليل الأول، وحين يمضي نصف الليل الأول، وحين يمضي ثلث الليل الآخر، وأكثر الأحاديث وردت أنه حين يمضي ثلث الليل الآخر، والأحاديث المتواترة على هذا، ورواية النصف والثلث انفرد بها مسلم في بعض طرقه كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأخبار النزول متواترة في الجملة، قال ابن عبد البر: إنه حديث كثير الطرق.

ولهذا اتفق السلف على إثبات صفة النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، ونزوله سبحانه لا يشبه نزول المخلوق، فالله مستوٍ على عرشه كما أخبر عن نفسه وهو فوق المخلوقات وهو ينزل كل ليلة إلى الدنيا كما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف، وأئمة السنة كلهم أجمعوا على هذا، واستدلوا بالنصوص على أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل يوم القيامة للفصل والقضاء، ولا منافاة بين نزوله واستوائه على عرشه؛ لأنه سبحانه ينزل نزولاً لا يشابه نزول المخلوقين، بل كما يليق بجلاله وعظمته ولا نعلم كيفيته، ولهذا قال الإمام محمد بن الحسين الآجري: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يرد هذا إلا المعتزلة، وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف؛ لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، فكيف تقبل الأخبار التي رووها في الحلال والحرام ولا تقبل الأحكام التي رووها في الصفات؟! وكما قبل العلماء منهم ذلك، قبلوا منهم هذه السنن، قال الآجري: إن من ردها فهو ضال خبيث، يحذرونه ويحذرون منه.

ومن الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله له كتاب التوحيد، وهو كتاب عظيم، ينقل عنه أهل الحق أهل السنة والجماعة، قال بعد أن ذكر هذه الأخطاء: نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار بنزول الرب بغير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يخبرنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه الصلاة والسلام بيان ما في المسلمين إليه حاجة من أمر ديننا، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول، وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق السماء الدنيا.

الذي أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه ينزل إلينا، إذ محال في لغة العرب أن يقول: ينزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل.

وبهذا يتبين أن صفة النزول أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وتواترت بها الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول ويدحضان حجة كل مبطل).

أي يقطعان قول من يقول: إنه ينزل أمره أو وينزل ملك، لصراحتهما أن الله هو الذي ينزل بنفسه، وأنه قال: من يسألني؟ من يدعوني؟ من يستغفرني؟

<<  <  ج: ص:  >  >>