للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أحكام التمتع والقران للمقيم بمكة والآفاقي]

الذي يعتمر ثم يحل وهو معتمر في أشهر الحج وبعد ذلك يحرم بالحج، فهذا هو المتمتع، فيجوز للمكي ولغير المكي أن يتمتع، والمكي: الشخص الذي يكون من أهل مكة، أو المستوطن المقيم بها، فهذا المكي يجوز له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج وغيره يجوز له ذلك، لكن يفرق بين أن المكي ليس عليه دم في ذلك، وغير المكي عليه دم واجب في ذلك، ولا يكره للمكي التمتع والقران، وإن تمتع لم يلزمه دم؛ لأن الله عز وجل قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٦] فأهل الحرم لا يلزمهم دم في التمتع لهذه الآية.

فإن قال قائل: إنما كان النسك قربة وطاعة في حق المكي أو غير المكي، فلم لزم الدم الغريب لاختياره التمتع؟ فنقول: إن الإنسان المقيم في مكة الله سبحانه تبارك وتعالى جعل له ميزة، وهي أنه مقيم في الحرم فهو يطوف بالبيت في كل وقت يقدر على ذلك، والذي يأتي من بعيد بالنسبة له لا يطوف إلا مرة في العمر بحسب ما يتيسر له، فهذا هو الذي عليه الدم؛ لأنه ترفه بالتمتع فيلزمه الدم، والمكي أحرم بحجة وعمرة من ميقاته أي: من مكة، وإن كان هو لا تلزمه عمرة، فإن فعل ذلك فلا يلزمه الدم بتمتعه من العمرة إلى الحج، وإن جاز له أن يفعل ذلك.

والآية معناها: فمن تمتع فعليه الهدي إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فإن كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه، والقارن كذلك يلزمه الدم إلا أن يكون مكياً، فالمكي ليس عليه دم.

والقارن هو الذي يأتي بعمرة وحج، أما المتمتع: فيأتي بعمرة وحج، لكنه يحل بين العمرة والحج فترة، ويترفه بإسقاط أحد السفرين، فهو لم يسافر مرة للحج ولا مرة أخرى للعمرة، والقارن كذلك يعتبر أسقط أحد السفرين بكونه أدى مناسك الحج ودخلت فيه أعمال العمرة، والمكي لم يسافر، وإنما أحرم من مكانه فإذا كان في التمتع لا يلزمه دم فالقران كذلك لا يلزم المكي فيه الدم، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:١٩٦]، والقارن متمتع على هذا المعنى.

العلماء ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً، وذكروا أنه كان قارناً، وذكرواً أنه كان متمتعاً صلوات الله وسلامه عليه.

فالقول أنه كان مفرداً هذا صحيح، ولكن لما خرج من المدينة كان مفرداً ثم صار قارناً في وادي العقيق، فأدخل العمرة على الحج فصار قارناً.

والقران يسمى بالتمتع أيضاً للمعنى الذي فيه، نقول: التمتع: الترفه بالشيء، والتسهيل, وتعريف التمتع هنا على المعنى اللغوي، وعلى ذلك القارن يطلق عليه متمتعاً على هذا المعنى، فيكون المتمتع عليه دم سواء كان متمتعاً على هذا المعنى في النسك بأنه اعتمر في أشهر الحج ثم تحلل، ثم أحرم بالحج بعد ذلك في أيام، أو أنه قرن بين العمرة والحج، فكأنه ترفه بإسقاط أحد السفرين، وكذلك عمل نسكاً واحداً - وهو نسك الحج - فأجزأ عن العمرة والحج.

والقارن: هو المتمتع بالعمرة إلى الحج بدليل أن علياً رضي الله عنه لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالحج والعمرة؛ ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه، وكأنه حمله على المعنى اللغوي من أن القران فيه التمتع على ما ذكر، وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب أنه قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، وهذا اجتهاد من عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقبله اجتهد في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان ينهى عن المتعة، وكان يخشى أنه لو أذن لهم أن يعتمروا ثم يتحللوا ثم يحرموا بالحج أنهم عندما يتحللوا بين العمرة والحج ولا يزالون على ذلك حتى يفسد أحدهم على نفسه حجه، فـ عمر نظر إلى ذلك من أنه لو أبيح لهم أمر النساء لفسد حجهم، فأرادوا أن يكونوا بعيدين عن النساء حتى ينتهوا من حجهم، ولكن العلة التي نظر إليها عمر رضي الله عنه عرفها النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قالوها له على وجه التعجب، ومع ذلك أمرهم بالتمتع صلوات الله وسلامه عليه، فيكون الذي نهى عنه عمر رضي الله عنه، وهذا اجتهاده منه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وليس نسخاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من حق أحد أن ينسخ ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.

كذلك عثمان رضي الله عنه عندما قال بذلك ونهى عن المتعة أو عن العمرة في هذا الوقت فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟! أي: تريد أن تنهى عنها والذي فعلها هو النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال عثمان: دعنا منك، فـ عثمان كان مجتهداً رضي الله عنه، فاجتهد في شيء لشيء رآه، ولكن علياً رأى أن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن تترك، فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعاً.

فالصورة صورة القران، وكأن هذا القران كان يطلق عليه المتعة لهذا المعنى الذي ذكرناه، ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين، والقارن كذلك بدل ما يسافر للعمرة لوحدها ثم يسافر ثانية للحج فجمعهما في سفر واحد فهذا ترفه، فلزمه دم كالمتمتع، وإذا عدم الدم فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله كالمتمتع سواء.

ومن شرط وجوب الدم عليه ألا يكون من حاضري المسجد الحرام على قول جمهور العلماء، فالمكي إذا تمتع بالعمرة إلى الحج أو كان قارناً فلا يجب عليه الدم في ذلك، ويجوز منه القران، ويجوز منه التمتع قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٦] الحاضر والمقيم والمستوطن كلهم من أهل الحرم، فالذين قدموا واستوطنوا ومكثوا فهؤلاء أهل الحرم، وكذلك من بينه وبين مكة دون مسافة القصر، أي: الذي يعتبر من أهل مكة هو من كان دون مسافة القصر، ليس أن يقول: إنه مسافر من مكان إلى مكان.

فنقول: يجب على المتمتع الدم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:١٩٦].

ولوجوب دم التمتع شروط منها: الأول: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام كما ذكرنا، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم، فمن قيل في حقه: مسافر من مكان كذا إلى الحرم فهذا ليس من حاضري المسجد الحرام، وهذا الإنسان إذا كان له مسكنان أحدهما في مكة أو قريب منها والآخر بعيد عنها -في المدينة أو في غيرها- فإذا كان مقامه في أحدهما فله حكمه، فمن الممكن أن يكون له بيت في مكة مقيم فيه وبيت آخر في المدينة يذهب له كل ما يسافر فهنا الأصل أنه مكي، وإذا استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما كأن يكون أهله وأولاده وماله في مكة فيعتبر هذا مكياً، وإن كان أهله وأمواله وأولاده في المدينة فهذا مدني وليس مكياً، فالحكم يكون للمكان الذي أهله وماله فيه.

وإذا استوى ذلك وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما فالحكم له، كأن يكون له مال وأهل في مكة وكذلك في المدينة وهو عازم أنه سيعيد في المدينة فالحكم تابع لهذا العزم، فإن عزم أن يقيم في مكة بعد ذلك فهو لهذا المكان، وهذا خلاف من ذهب ليستوطن، كإنسان في موسم الحج نوى أن يعمل في الحج ويستوطن هناك، فهذا ليس من حاضري المسجد الحرام، إلا إذا أقام بمكة بعد ذلك.

ولو استوطن غريب بمكة فهو حاضر، يعني: جاء من بلده وقعد في مكة سنين ونوى أن يمكث فيها فهذا يطلق عليه من حاضري المسجد الحرام، لكن إنساناً آخر ذهب في موسم الحج ونيته أن يقيم بعد ذلك، فلا يطلق عليه أنه من حاضري المسجد الحرام إلا إذا أقام بعد ذلك.

ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد فراغه من النسكين أو من العمرة أو نوى الإقامة بها بعدما اعتمر فليس بحاضر، ولا يسقط عنه الدم.

يقول ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من دخل مكة بعمرة في أشهر الحج مريداً للمقام بها ثم حج من مكة أنه متمتع وعليه دم، ولو كان هو أصلاً استوطن مكة قبل هذا النسك لقلنا: هذا من حاضري المسجد الحرام، لكن هذا ذاهب إلى النسك فيكون حكمه الآن أنه غريب قادم من الآفاق، فهذا يلزمه دم، فإذا أقام وحج بعد ذلك من قابل فهو مقيم، فإذا اعتمر بعد ذلك فهذا متمتع ومن أهل المسجد الحرام فلا يلزمه الدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>