للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الالتزام بدعاء السفر في الذهاب والعودة]

من السنة أن يدعو الإنسان في خروجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم سلمة رضي الله عنها: (ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي).

هذا الدعاء العظيم كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من بيته، في أي خروج كان، سواء كان خروج سفر أو إلى المسجد أو غير ذلك، كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يرفع بصره إلى السماء ويدعو بذلك: (اللهم إني أعوذ) أي: أعتصم وأستجير، فأطلب من الله عز وجل أن يكون هو مددي وملجئي ومجيري، ويعصمني ويحفظني من أن أضل أو أضل، وقوله: (أضل) فعل لازم معناه: أقع في الضلال وأصير إلى الضلال، وقوله: (أو أُضل) أي: أن يضلني أحد.

فالإنسان الخارج لعل الشيطان يسول له أن يقع في الضلالة، أو يقابله رفيق سوء فيدعوه إلى الوقوع في الحرام، فأنت تقول: أعوذ بك يا رب أن أضل أنا بنفسي، أو أن يضلني غيري.

قوله: (أو أزل) أي: أعوذ بك أن أقع في الزلل والمعصية.

(أو أُزل) أي: أن يأتي إنسان إلي فيوقعني في الزلل وفي الخطيئة وفي المعصية.

(أو أَظلم أو أُظلم) أي: أن أقع في الظلم، بأن أظلم أحداً من الناس، أو أن يظلمني أحد من الناس.

(أو أجهل أو يجهل علي) أي: أن أقع في سوء الخلق فأجهل على إنسان آخر، أو إنسان يجهل علي بسوء خلقه.

هذا الحديث جمع دعاء عظيماً: (اللهم إني أعوذ بك أن أَضل أو أُضل، أو أًزل أو أُزل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يُجهل علي).

كذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!).

فالشيطان عندما يسمع ذلك يقول لصاحبه: لا نقدر على هذا الإنسان.

فقوله: (إذا خرج من بيته فقال: باسم الله) أي: خروجي هذا على اسم الله سبحانه وتعالى.

قوله: (توكلت على الله) أي: فوضت أمري إلى الله سبحانه، ومعنى التوكل على الله سبحانه: أن الإنسان يستشعر العجز والضعف، وأنه لا يقدر على الشيء وحده، ويقول: الله الذي يقدرني على ذلك، فلا حول ولا قوة لي إلا بالله.

والإنسان هو الضعيف العاجز فيحتاج إلى من يقويه، وإلى من يعطيه، فتقول: (توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) أي: جعلت الله عز وجل وكيلي ومدبر أمري ومعيني وناصري، ولا حول ولا قوة لي إلا به.

فإذا قال العبد ذلك فالله يعينه ويصرف عنه الشياطين، فيقال لهذا الإنسان: (هديت وكفيت ووقيت)، أي: الله قد هداك، ووقاك من كل شر، والله يكفيك من كل سوء سبحانه وتعالى، فإذا بالشيطان يقول لصاحبه: (كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟) يعني: إذا كان ربه معه فلن نقدر عليه.

كذلك إذا أراد المسافر أن يركب الدابة، أو كان يريد أن يركب طائرة أو سيارة، أو باخرة، فأول ما يضع رجله يقول: باسم الله، فإذا استوى يقول: الحمد لله، ثم يأتي بالتسبيح والذكر والدعاء الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً، يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:١٣])، السفر كله عظات، وفيه تأملات ووقفات مع النفس، فيتأمل المسافر كيف أن الله عز وجل سخر لنا هذا الشيء، فأنت حين تركب طائرة تجد حجم الطائرة ضخماً، وإذا بهذه الطائرة تطير وتقلع من الأرض إلى السماء، فسبحان الذي سخر لنا هذا، فمن الذي حمل الإنسان عليها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فهو إن شاء هوى بها وأهلك أهلها، وإن شاء نجاهم وأوصلهم سبحانه، فيتمعن الإنسان ويتفكر ويعلم أنه محتاج إلى الله عز وجل في كل وقت، فما أعظمه سبحانه وتعالى، فهو الذي رفع هذه الطائرة سبحانه وتعالى، وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فصنع هذه الطائرة وهذه الباخرة وهذه السيارة وغيرها.

قال تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:١٣] أي: مطيقين، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:١٤] أي: تذكر أنك مسافر من مكان إلى مكان تريد أن تنقلب وترجع إلى أهلك، فتذكر أن الرجوع الحقيقي هو إلى الله سبحانه وتعالى.

ثم يدعو المسافر بالدعاء المأثور ويقول: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى) أي: أعمال البر وأعمال الطاعة، العمل الذي يرضي الله سبحانه، والتقوى أن يجعل في قلوبنا ما يمنعنا من معصية الله سبحانه، وما يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فالتقوى: هي الوقاية التي تقي الإنسان من غضب الله سبحانه وتعالى ومن المعاصي.

ثم قال: (اللهم هون علينا سفرنا هذا)، هذا دعاء عظيم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن السفر قطعة من العذاب)، فتسأل ربك سبحانه أن يهون عليك هذا السفر.

ثم قال: (واطو عنا بعده) أي: لا تجعله بعيداً طويلاً، ولكن سهله وقلله.

ثم قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر) أي: المصاحب لنا بفضلك وحراستك وقوتك يا الله! (والخليفة في الأهل) أي: استخلفناك أن تدافع وتدفع وتحفظ وتحرس أهلنا.

ثم قال: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر) أي: شدة ومشقة السفر، (وكآبة المنظر)، أي: المنظر الذي يجعلني أكتئب وأحزن، فأعوذ بالله عز وجل أن يريني ما يحزنني في سفري أو في رجوعي، (وسوء المنقلب في المال والأهل)، أي: سوء الرجوع، فهو يستعيذ بالله أن يرجع فيجد ما يسوءه في أهله أو في ماله، وإذا رجع من السفر قالهن وزاد فيهن، (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون).

قوله: (آيبون) من الأوبة وهو الرجوع، (تائبون) أي: إلى الله، والأوبة مع التوبة مناسب، فالإنسان يئوب ويرجع إلى مكانه، فكأنه يتذكر ويقول: أنا أبت إلى أهلي فلماذا لا أءوب إلى الله عز وجل، وأتوب إلى الله سبحانه، وأرجع إليه؟! وجاء عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب) أي: يتعوذ من الوعثاء، والوعثاء: هي الشدة والمشقة والتعب والنصب والإعياء في السفر، ويتعوذ مما يجعله مكتئباً حزيناً إذا رجع إلى أهله، (والحور بعد الكون، أو بعد الكور)، الكور: من كور العمامة التي تكون على الرأس، والكون هو: الاجتماع، والحور هو التفكك، فكأنك تدعو ربك: ألا يفك اجتماعي، وأن يجعل عملي كله مجموعاً صحيحاً، ولا يبعدني عن هذا العمل فأكون قد رجعت عن هذا العمل الصالح الذي عملته، فهو يتعوذ بالله من النقصان بعد الزيادة، وبعدما زاد إيمانه وزاد عمله يدعو ألا ينقص وينحل ويتفكك ويحدث هذا الخلل.

ثم قال: (ودعوة المظلوم وسوء المنظر)، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ولو كان فاجراً ولو كان كافراًَ، فينبغي ألا تظلم أحداً لا مسلماً ولا كافراً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من دعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال.

وجاء عن علي بن ربيعة قال: (شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي بدابته ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين! من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله! من أي شيء ضحكت؟ قال: إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري).

فالعبد حين يقول: (اغفر لي ذنوبي) فربنا يعجب ويقول: من سيغفر له إلا أنا! فيعجب لعبده، فإذا عجب الله عز وجل لعبد فإنه يرحمه ويغفر له ويثيبه ويعطيه بفضله وكرمه سبحانه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لسعة رحمة رب العالمين تبارك وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>