للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ترك المبيت بمنى لأهل الأعذار]

من ترك مبيت مزدلفة أو منى لعذر مثل رعاء الإبل وأهل السقاية فلا دم عليهم، فرعاة الإبل لا يستطيع أن يترك إبله، فقد تسرق، أو لا تأكل فتموت، أو يحدث لها أي شيء، وكذلك أهل السقاية لا دم عليهم، ويلحق بهم من كان مريضاً مرضاً شديداً واضطروا لنقله إلى المستشفى مثلاً بسبب ذلك.

وقد جاء في الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له)، ورواه أحمد بلفظ: (أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيت بمكة أيام منى من أجل السقاية، فرخص له).

وفي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وكونه رخص لهذا فهو لغيره عزيمة وليست رخصة، وهو من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي ذلك، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هذه العلة ولم يوجد معنى هذه العلة لم يحصل الإذن، ولم تحصل الرخصة.

ورعاء الإبل وأهل السقاية لهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق.

إذاً: المبيت في ليالي التشريق لا يكون واجباً عليهم من أجل السقاية؛ لأنهم يكونون موجودين في مكة يسقون الحجيج، وأهل الرعاء: الذي يبيعون للحجيج الإبل والشياه وغيرها في موسم الحج لا يقدر أن يبيت مع الناس؛ لأنه سيحضر غنمه وإبله ويدخلها مع الناس في هذا المكان، فعلى ذلك يحتاجون أن يبيتوا في الخارج بإبلهم وأغنامهم.

وللصنفين جميعاً أن يدعوا رمي يوم القر وهو الأول من أيام التشريق، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم ترك يومين متواليين، والمعنى: إذا كانوا في يوم العيد رموا ولهم أن ينفروا، ويذهبوا عند إبلهم وغنمهم أو عند السقاية، وسيأتون في اليوم الثاني لرمي الجمرة لهذا اليوم وللغد، وإما أنهم لن يأتوا يوم القر ويمكثون هنالك ويأتون يوم النفر الأول ليرموا للبارحة ولهذا اليوم، فهم سيرمون يومين بالخيار، ويوم العيد لابد من الرمي فيه، وبعد ذلك سيخرجون لرعاية الإبل أو لسقاية الحجيج، وإما أن يأتوا في اليوم الثاني للرمي عن هذا اليوم واليوم الذي يليه، أو لا يأتون في يوم القر ويأتون في اليوم الثالث من أيام العيد يرمون عن البارحة وعن هذا اليوم.

وإن تركوا رمي اليوم الثاني من أيام التشريق بأن خرجوا اليوم الأول بعد الرمي عادوا في اليوم الثالث، وإن تركوا رمي اليوم الأول بأن خرجوا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة عادوا في اليوم الثاني، ثم لهم أن ينفروا مع الناس، وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى لزمهم المبيت تلك الليلة ورمي الغد.

والراعي لابد من أن يبيت، إلا إذا تعذر الأمر في أن الإبل ستموت لو لم يكن معها بالليل فهذا أمر آخر، لكن الرخصة كانت لمن يسقي أنه لا يبيت؛ لأن السقيا يحتاجونها بالليل والنهار، ورعاء الإبل الغالب أنه لا يحتاج لذلك إلا بالنهار وقت المبيع، لكن إذا استدعى الأمر ليلاً ونهاراً فالظاهر أنه يرخص له كسقاة الحجيج.

ويجوز لأهل السقاية أن ينفروا بعد الغروب؛ لأن عملهم بالليل، بخلاف الرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس، فنقول: غير أهل السقاية لابد لهم من المبيت إلا أصحاب الأعذار من هؤلاء، ورخصة السقاية لا تختص بـ العباس، ولكن لكل من يقوم بهذا الأمر.

ومن المعذورين في ترك المبيت ليلة المزدلفة وليالي منى من أصحاب الأعذار في ذلك: من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت، فلو كان له إبل أو بقر أو أغنام موجودة في مكان خارج منى، وتحتاج للحراسة، ولو دخل وبات في منى ضاعت وسرقت في هذا المكان، فيرخص له أن يبيت مع ماله ولا يلزمه شيء، أو كان يخاف على نفسه، أو كان به مرض يشق معه المبيت، ولو بات في منى قد يحدث له شيء فيحتاج إلى المبيت في المستشفى هذه الليالي، فهذا معذور.

أو كان معه مريض يحتاج إلى تعاهده، كإنسان معه أبوه وهو في المستشفى، ويحتاج إلى أن يكون معه في هذا الوقت، فهذا عذر له ورخصة أشد من رخصة السقاية والرعاية، أو كانا يطلب ضالة أو تائهاً تاه منه كابنه أو أمه يبحث عنها في خارج منى، فهذا أيضاً معذور، إذ كيف سنلزمه بالمبيت وهو يبحث على التائه؟ أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته، فيجوز له ترك المبيت ولا شيء عليه في ذلك.

وكذلك من ضاقت عنهم منى مع شدة الزحام، فهذا عذر من الأعذار الموجودة الآن، فقد يصلون إلى منى فلا يجدون مكاناً يبيتون فيه، أو لا توجد لهم خيام ومكان بمنى، أو لم يستطيعوا دخولها وضاعت الليلة وهم خارج منى، وهذا يحدث كثيراً، كمن ذهب ليرمي الجمرة وبعد ذلك ذهب وطاف بالبيت، ثم أراد الرجوع فلم يجد شيئاً يوصله، والزحام شديد جداً فظل محبوساً خارج منى فترة طويلة، وأحياناً يحولونهم على طرق أخرى، فيذهب ولا يستطيع الوصول إلى منى، فهذا معذور في ذلك، فقد ضاع عليه الليل وهو على هذه الحال، إذاً: الراجح أنه لا شيء عليه في ذلك وهو معذور.

ولو ترك المبيت بمزدلفة أو بمنى ناسياً كان كتركه عامداً: هذه صورة ثانية، فالمعذور لا شيء عليه، فقد حاول أن يدخل منى ولكنه ما استطاع، لكن هذا نسي ونام في مكة، فحكمه حكم المقصر، فإذا كانت ليلة واحدة فعليه ثلث دم، وفي الليالي الثلاث دم كامل.

<<  <  ج: ص:  >  >>