للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث: (توضأ النبي ومسح على الجوربين والنعلين)]

الملقي: [باب: ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين: حدثنا هناد ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين).

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين.

قال: وفي الباب عن أبي موسى رضي الله عنه].

إن شاء الإنسان مسح على الجوربين مع النعلين، وإن شاء مسح على الجوربين بدون النعلين، أما النعلان وحدهما فلا يمسح عليهما، والجورب إذا كان ثخيناً يستر الكعب يمسح عليه، وهو في معنى الخف.

قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عيسى: سمعت صالح بن محمد الترمذي قال: سمعت أبا مقاتل السمرقندي يقول: دخلت على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه فدعا بماء فتوضأ وعليه جوربان فمسح عليهما، ثم قال: فعلت اليوم شيئاً لم أكن أفعله، مسحت على الجوربين وهما منعلين].

وفي نسخة أخرى: [وهما غير منعلين] بزيادة (غير).

قال الشارح رحمه الله تعالى: قالوا: يمسح على الجوربين وإن لم يكن نعلين أي: وإن لم يكن كل واحد من الجوربين نعلين، أي: منعلين، وفي بعض النسخ: (وإن لم يكونا نعلين)، وهو الظاهر.

والظاهر أن الترمذي أراد بقوله: (نعلين): منعلين، وقد وقع في بعض النسخ: (منعلين)، على ما ذكره الشيخ سراج أحمد في شرح الترمذي، والمنعل من (التنعيل) وهو ما وضع الجلد على أسفله (إذا كانا ثخينين) أي: غليظين.

قلت: فسرها على أنهما غير النعلين، والشارح كأنه ما اطلع على قوله: (وهما غير منعلين).

قال الشارح رحمه الله تعالى: اعلم أن الترمذي حسن حديث الباب وصححه، ولكن كثيراً من أئمة الحديث ضعفوه، قال النسائي في سننه الكبرى: لا نعلم أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية.

والصحيح عن المغيرة: (أنه عليه السلام مسح على الخفين).

انتهى، وقال أبو داود في سننه: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين).

قال: وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه مسح على الجوربين)، وليس بالمتصل ولا بالقوي.

وذكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: إنه حديث منكر ضعفه سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، ويروى عن جماعة أنهم فعلوه.

قال النووي: كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي، مع أن الجرح مقدم على التعديل، قال: واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولا يقبل قول الترمذي: إنه حسن صحيح].

قلت: هذا جزم بأنهم ضعفوا حديث المسح على الجوربين، وما ثبت أنه مسح على الجوربين، لكن الذين يرون المسح على الجوربين قالوا: نقيهما على الخفين، والمعنى واحد، أما الأحاديث ففيها المسح على الخفين، وحديث المغيرة معروف أنه مسح على الخفين.

قال الشارح رحمه الله تعالى: أبو قيس اسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي، مشهور بكنيته، وثقه ابن معين والعجلي، والدارقطني، وقال أحمد: يخالف في أحاديثه، وقال أبو حاتم ليس بالقوي، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال في التقريب: صدوق ربما خالف، (عن هزيل) بالتصغير ابن شرحبيل -بضم المعجمة وفتح الراء المهملة وسكون الحاء المهملة بعدها باء موحدة- الكوفي، ثقة مخضرم.

قوله: (وفي الباب عن أبي موسى) أما حديث أبي موسى فأخرجه الطحاوي في شرح الآثار من طريق أبي سنان عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه)، وأخرجه -أيضاً- ابن ماجه والبيهقي من طريق عيسى بن سنان عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى، وقد تقدم أن أبا داود حكم على هذا الحديث بأنه ليس بالمتصل ولا بالقوي.

وقال البيهقي بعد رواية الحديث: له علتان، إحداهما: أن الضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، والثانية: أن عيسى بن سنان ضعيف.

انتهى.

المعروف أن الأحاديث صحيحة عن النبي في المسح على الخفين، لكن العلماء قالوا: إن الجوربين في معنى الخفين، وبعض العلماء منع المسح على الجوربين وقال: أن المسح خاص بالخفين.

قال الشارح رحمه الله تعالى: فإن قلت: قد ضعف الإمام أحمد حديث المسح على الجوربين، ومع تضعيفه قد قال بجواز المسح على الجوربين ولم يقيدها بشيء من هذه القيود، كما يظهر من كلام ابن العربي! قلت: قد قيدهما الإمام أحمد -أيضاً- بقيد الثخونة، كما صرح به الترمذي، وقال ابن قدامة في المغني: قد قال أحمد في موضع: لا يجزيه المسح على الجورب حتى يكون جورباً صفيقاً يقوم قائماً في رجله لا ينكسر مثل الخفين، إنما مسح القوم على الجوربين لأنه كان عندهم بمنزلة الخف في رجل الرجل يذهب فيه الرجل ويجيء.

انتهى كلامه].

قلت: وهذا يدل على أن بعض الناس يتساهلون في المسح على الشراب الخفيف، وهو لا يقوم مقام الخف، ولا يمكن متابعة المشي عليه، فلا ينبغي الاستخفاف بمثل هذا.

وقوله: (ولا ينكسر) أي: يكون ثخيناً بحيث إنه يتابع المشي عليه ويقوم مقام الخف.

قال الشارح رحمه الله تعالى: وقد قال قبل هذا: سئل أحمد عن جورب الخرق يمسح عليه فكره الخرق، ولعل أحمد كرهها لأن الغالب عليها الخفة، وأنها لا تثبت بأنفسها، فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة فلا فرق.

انتهى كلامه.

على أنه لم يعتمد على حديث الجوربين، بل اعتمد على آثار الصحابة رضي الله عنهم، قال الحافظ ابن القيم في تلخيص السنن: قد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين، وعلل رواية أبي قيس، وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه.

انتهى كلام ابن القيم.

أي أن الحجة أو الدليل في المسح على الجوربين هو القياس وآثار الصحابة، أما الحديث فهو حديث ضعيف، لكن ينبغي أن يكون ثخينا صفيقاً، ولا ينبغي التساهل في هذا، فكونه يأتي بشراب خفيف يمسح عليه لا يصح.

قال الشارح رحمه الله تعالى: تنبيه آخر: قال الحافظ ابن تيمية في فتاواه ما لفظه: يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما، سواء كانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء.

قلت: بعض العلماء يقولون: لابد من أن يكونا من جلد، والصواب أنه يصلح المسح ولو كانا من قطن، بشرط المشي عليهما، أما إذا كانا خفيفين لا يمكن أن يتابع المشي عليهما بحيث لو مشى خطوة خرقهما، فلا يمكن المسح عليهما.

قال الشارح رحمه الله تعالى: ولو سلم أنه لا يظهر الفرق بينهما وبين الخفين فلا شك في أن الجوربين الرقيقين ليسا داخلين تحت أحاديث الخفين؛ لأن الجورب ليس من أفراد الخف.

قال الشارح رحمه الله تعالى: قوله: (في أصح قولي العلماء) ففي السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه)، وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك، فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود، ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة.

فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً، كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه، وغايته أن الجلد أبقى من الصوف، وهذا لا تأثير له، كما لا تأثير لكون الجلد قوياً، بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى.

وأيضاً: فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء، ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله.

انتهى كلامه.

قلت: كلام الحافظ ابن تيمية هذا ليس مخالفاً لما اخترنا من أن الجوربين إذا كانا ثخينين صفيقين يمكن تتابع المشي فيهما يجوز المسح عليهما، فإنهما في معنى الخفين، فإنه -رحمه الله- قيد جواز المسح على الجوربين بقوله: إذا كان يمشي فيهما، وظاهر أن تتابع المشي فيهما لا يمكن فيهما إلا إذا كانا ثخينين.

وأما قوله: (ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين).

فإنما يستقيم إذا كان الجوربان ثخينين بحيث يمكن تتابع المشي فيهما، وأما إذا كانا رقيقين بحيث لا يمكن تتابع المشي فيهما فلا، كما عرفت فيما تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>