للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شرح حديث: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرأان القرآن.

حدثنا علي بن حجر والحسن بن عرفة قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن).

قال: وفي الباب عن علي.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض).

وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، مثل سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئاً، إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل.

قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير، كأنه ضعف روايته عنهم فيما ينفرد به، وقال: إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام.

وقال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش أصلح من بقية، ولـ بقية أحاديث مناكير عن الثقات.

قال أبو عيسى: حدثني بذلك أحمد بن الحسن قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ذلك].

ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الشام جيدة؛ لأنهم أهل بلده، بخلاف روايته عن أهل الحجاز، فهي ضعيفة.

وقول البخاري: (إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام) أي أن البخاري يرى أن حديث إسماعيل بن عياش الذي هو صحيح وصالح للاحتجاج إنما هو ما يرويه عن أهل الشام، قال في الخلاصة: إسماعيل بن عياش العنسي الحمصي عالم الشام، وثقه أحمد وابن معين ودحيم والبخاري وابن عدي في أهل الشام، وضعفوه في الحجازيين، وقال في التقريب: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم.

اه.

وقال الذهبي في الميزان في ترجمة إسماعيل بن عياش: قال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن إسماعيل وبقية، فقال: بقية أحب إلي.

وقال في ترجمة بقية: قال أحمد: هو أحب إلي من إسماعيل بن عياش.

اهـ.

وموسى بن عقبة هو الأسدي مولاهم المدني، روى عن أم خالد بنت خالد وعروة وعلقمة بن الوقاص وطائفة، وروى عنه يحيى الأنصاري وابن جريج ومحمد بن خليف، قال مالك: عليكم بمغازي ابن عقبة؛ فإنه ثقة، فهي أصح المغازي، وقال ابن معين: ثقة، في روايته عن نافع شيء، وكان يحيى يضعفه بعض التضعيف، ووثقه أحمد وأبو حاتم، فهو جيد في المغازي.

وقال القطان: مات سنة إحدى وأربعين ومائة.

والحديث أخرجه ابن ماجة أيضاً من هذا الطريق، وهو حديث ضعيف؛ لأن إسماعيل بن عياش قد وثقه أئمة الحديث في أهل الشام وضعفوه في الحجازيين، وقد روى هذا الحديث عن موسى بن عقبة، وهو من أهل الحجاز، قال البيهقي في المعرفة: هذا حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش، وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها، قاله أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من الحفاظ، وقد روى هذا من غيره وهو ضعيف.

انتهى.

وقال ابن أبي حاتم في علله: سمعت أبي وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال: أخطأ، إنما هو من قول ابن عمر.

كذا في نصب الراية.

فهذا الحديث ضعيف، والترمذي رحمه الله جزم بأن الحائض والجنب لا يقرأان القرآن، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، فالجمهور يرون أن الحائض والجنب لا يقرأان القرآن، أما الجنب فقد جاء في حديث علي: (فأما الجنب فلا ولا آية)، وأما الحائض فهذا الحديث في حقها ضعيف، والمراد النهي عن قراءة القرآن عن ظهر قلب، أما مس المصحف فواضح أنه لا يمس المصحف، وقال آخرون من أهل العلم: إن الحائض ليست كالجنب، ولا تقاس عليه؛ لأمرين: الأمر الأول: أن الجنب صح فيه حديث عن علي، وأما الحائض فلم يصح في شأنها حديث.

الأمر الثاني: أن الجنب مدته لا تطول، فهو يستطيع أن يغتسل ويقرأ القرآن، أما الحائض فليس الأمر باختيارها، وليس بيدها ذلك، ومثلها النفساء، فإن النفاس قد يطول إلى أربعين يوماً، وكذلك الحائض قد تكون مدتها أربعة عشر يوماً، وقد تكون حافظة للقرآن، فلا نستطيع أن نمنعها في هذه المدة من قراءة القرآن بغير دليل واضح.

فقالوا: لا بأس أن تقرأ الحائض القرآن عن ظهر قلب، وقد تكون مُدرسة أيضاً، وقد تكون طالبة تحتاج إلى قراءة القرآن، لكنها لا تمس المصحف، وإن احتاجت إلى ذلك فيكون من وراء القفازين.

والبخاري عقد باباً في صحيحه يدل على أنه قائل بجواز قراءة القرآن للجنب والحائض، فإنه قال: باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابن عباس للقراءة للجنب بأساً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

وذكر آثاراً أخرى، ثم ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف حضت) الحديث، وفيه قال: (فافعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)].

ومما يفعل الحاج أنه يقرأ القرآن في قلبه.

قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال وغيره: إن مراد البخاري الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من جميع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب، لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إن كان لكونها ذكراً لله فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبداً فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عن المصنف -يعني البخاري - شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره، لكن أكثرها قابل للتأويل، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره -كـ الطبري وابن المنذر وداود - بعموم حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على أحيانه)؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، لكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه.

واستدل الجمهور على المنع بحديث علي: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء، ليس الجنابة) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة، لكن قيل: في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد، فلا يدل على تحريم ما عداه، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعاً بين الأدلة، وأما حديث ابن عمر مرفوعاً: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) فضعيف من جميع طرقه.

اه.

وقد ورد في الجنب أحاديث خاصة، والقرآن ذكر خاص، فالمراد ذكر الله على كل أحيانه غير القرآن، فأما الجنب (فلا ولا آية)، وذهب بعض العلماء إلى أن الحائض والجنب يقرأان جميعاً.

والقول الوسط -ولعله هو الأقرب والأرجح- أن الجنب لا يقرأ، وأما الحائض والنفساء فإنها تقرأانه عن ظهر قلب.

<<  <  ج: ص:  >  >>