للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث: (الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط)]

قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء في الوضوء مما غيرت النار.

حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط.

قال: فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا أبا هريرة! أنتوضأ من الدهن؟! أنتوضأ من الحميم؟! قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي! إذا سمعت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلاً)].

الحميم: هو الماء الحار، وهذا كان في أول الإسلام، فكان الناس يتوضئون مما مسته النار، فإذا شربوا حميماً -كالقهوة والشاي اليوم أو غيرهما مما مسته النار-، أو أكلوا طعاماً؛ فإنهم يتوضئون، ثم نسخ الوضوء مما مست النار إلا لحم الإبل، فهو مستثنى من ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم) كما في حديث جابر، وفي الحديث الآخر: (سئل صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئتم، قالوا: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم).

فلحم الإبل مستثنى مما سبق، فيتوضأ منه سواء أكان نيئاً أم مطبوخاً، والصواب أن جميع أجزاء الإبل تنقض الوضوء، وبعض العلماء يرى أن الذي ينقض هو اللحم الأحمر دون الشحم والأمعاء والكرش وغيرها مما ليس بلحم أحمر.

والصواب الأول، فالله تعالى لما حرم لحم الخنزير قال: {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة:١٧٣] فشمل جميع أجزاء الخنزير، فكلها محرمة حتى شحمه وعصبه، وكذلك الحال في الوضوء من لحم الإبل.

وفي هذا الحديث نجد أن أبا هريرة يرى أن الحكم الأول من الوضوء مما مست النار ما زال باقياً.

والثور من الأقط هو اللبن إذا أحمي عليه بالنار فصار قطعاً.

وقوله: [(فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة: أنتوضأ من الدهن؟! أنتوضأ من الحميم؟! قال: فقال أبو هريرة: يا ابن أخي! إذا سمعت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له مثلاً)].

صدق في ذلك أبو هريرة رضي الله عنه، فينبغي للإنسان المسلِّم لله ولرسوله إذا سمع الحديث أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يضرب الأمثال، ولا يعارض النص برأي ولا بفهم.

وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر رواية عن ابن عباس في (المسند) تشبه هذه الرواية في المعنى، قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الرزاق وابن بكر قالا: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني محمد بن يوسف أن سليمان بن يسار أخبره أنه سمع ابن عباس ورأى أبا هريرة وهو يتوضأ، فقال: أتدري مما أتوضأ؟ قال: لا، قال: أتوضأ من أثوار أقط أكلتها، قال ابن عباس: ما أبالي مما توضأت، أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف لحم ثم قام إلى الصلاة وما توضأ: قال: وسليمان حاضر ذلك منهما جميعاً].

قال: وهذا إسناده صحيح، رواته أئمة ثقات، وهو مع رواية الترمذي يدلان على أن الجدل في هذا كان شديداً بين ابن عباس وأبي هريرة، وأنه لم يقتنع أحدهما بحجة الآخر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الباب عن أم حبيبة وأم سلمة وزيد بن ثابت وأبي طلحة وأبي أيوب وأبي موسى رضي الله عنهم.

قال أبو عيسى: وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء مما غيرت النار، وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على ترك الوضوء مما غيرت النار].

قال الحازمي في كتاب (الاعتبار): قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فبعضهم ذهب إلى الوضوء مما مست النار، وممن ذهب إلى ذلك ابن عمر وأبو طلحة وأنس بن مالك وأبو موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو غرة الهذلي وعمر بن عبد العزيز وأبو مجلز لاحق بن حميد وأبو قلابة ويحيى بن يعمر والحسن البصري رحمهم الله.

وذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، ورأوه آخر الأمرين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: وهو الصواب، فهو آخر الأمرين، ويدل على هذا حديث جابر: (كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار).

قال: وممن لم ير منه الوضوء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي بن كعب وأبو أمامة وأبو الدرداء والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومن التابعين: عبيدة السلماني وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ومن معهم من فقهاء أهل المدينة، ومالك بن أنس والشافعي وأصحابه، وأهل الحجاز وعامتهم، وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

انتهى كلام الحازمي.

قلت -القائل صاحب التحفة-: والظاهر الراجح ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، والله تعالى أعلم.

اهـ قلت: وظاهر الكلام أن أبا هريرة بقي على الأمر الأول من الوضوء مما مست النار، وخالفه ابن عباس في هذا، واشتد النزاع بينهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>