للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة جمع أبي بكر للقرآن]

ورد في البخاري من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان ممن يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك كتب هذا القرآن العظيم في عهد أبي بكر، قال: (أرسل إلي أبو بكر عام مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن).

فهؤلاء القراء الذين كانوا يحفظون القرآن قاموا بهذا القرآن كما أمر الله سبحانه، فلما جاء وقت الجهاد ذهبوا كلهم ليجاهدوا؛ لأنهم يريدون الجنة، فذهبوا في قتال أهل اليمامة، فكان الكثير من حفاظ القرآن يقاتلون مسيلمة الكذاب لعنة الله عليه، وكان مع مسيلمة كثير من الناس، وكان أشد قتال أتعب المسلمين قتال مسيلمة ومن معه، ومن كان معه يعرفون أنه كذاب، لكن كانوا يفتخرون أنه منهم من بني حنيفة من اليمامة، ولذلك كانوا يدافعون عنه، فقاتلوا قتالاً شديداً، وقتل الكثير من حفاظ القرآن الذي هم القراء، فلما حدث ذلك ذهب عمر إلى أبي بكر فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن يضيع حفاظ القرآن، وقبل أن يضيع القرآن، فكانت مشورة عظيمة وجميلة من سيدنا عمر رضي الله عنه لـ أبي بكر، فـ أبو بكر تردد في البداية وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب القرآن كله في كتاب واحد، ولم يجمعه في كتاب واحد، وكان أبو بكر شديد الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فما زال عمر به حتى أدرك ما أدركه عمر، واستجاب لما قاله عمر رضي الله عنه.

وأرسلوا إلى زيد بن ثابت فقال زيد: كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟! وكتابة القرآن يحتج بها العلماء في مسألة أصولية يسمونها: المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة مما دعا إليه الدين، ولم يأت بخصوصه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، لكنه مما دعا الدين إليه، قال ربنا سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، فالقرآن حفظه الله وأمر بحفظه سبحانه وتعالى، وأمرنا بقراءة القرآن وتدبر القرآن، فقال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢].

فكيف يتدبره الناس وليس مكتوباً في أيديهم، وإنما كان في صحف متفرقة مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا معه قليل، وهذا معه قليل، فلو مات هؤلاء الناس فكيف سيحفظون القرآن؟! فكانت هذه مصلحة من المصالح المرسلة، يتعبدون لله عز وجل بأن جمعوا القرآن، فكم سيأخذ من الثواب عمر رضي الله عنه، وأبو بكر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه، وزيد بن ثابت ومن معه ممن كتبوا هذا القرآن العظيم في كتاب واحد في صحيفة واحدة! لقد كان القرآن مكتوباً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا نزلت عليه الآيات يدعو الكاتب فيكتب، وكان من الكتاب زيد بن ثابت، وكان منهم معاوية بن أبي سفيان وغيرهما.

فكان يقول: ألحق هذه الآية بسورة كذا، فيلحقها في موضعها في السورة التي كتبها قبل ذلك.

ولم يكن عندهم ورق مثل الذي عندنا الآن، يقول زيد: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، كان يجمع القرآن من ذلك.

فهو أخذ من عنده رقعة مكتوب فيها، ومن عنده كتف، فقد كان الواحد يأخذ كتف البعير أو غيره وبعدما ينظفه ويطهره يكتب عليه ليحفظه عنده في البيت، وكذلك كان يأخذ العسب المكتوب عليها القرآن، والعسب هي الجريدة العريضة من جريد النخل؛ ليكتب فيها القرآن، قال: ومن صدور الرجال وحفظ الرجال، فـ زيد بن ثابت كان يكتب الوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وها هو الآن يجمع القرآن من هذه الأمور، فهو لم يعتمد على حفظه؛ لأن حفظ الإنسان قد يخونه، فلذلك جعلوا معه مجموعة من الرجال ليجمعوا القرآن، فكان معه ثلاثة من الرجال وهو رابعهم رضي الله عنهم أجمعين، قال: فقمت فتتبعت القرآن حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره.

فهذا يبين أنه كان يعتمد في الجمع على المكتوب؛ لأنه وجد آيتين من سورة التوبة مع خزيمة فقط، ليست مع غيره، وهذا لا يعني أنه لم يكن يحفظ هاتين الآيتين غير خزيمة، وإلا فلن يكون القرآن متواتراً، ولكن المقصود أنه وجدها مكتوبة معه فقط، وإلا فـ زيد يحفظهما، وحفاظ القرآن يحفظونهما، لكن أراد زيد أن يجدهما مكتوبتين، فوجدهما مكتوبتين مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، والآيتان هما قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:١٢٨ - ١٢٩].

فقد تعب زيد ومن معه في تجميع القرآن العظيم، وهو ستة آلاف ومائتا آية! كل آية يبحث من الذي كتبها، ومع من؟ فجمعوا القرآن في مصحف واحد، وكان هذا المصحف غاية في الإعجاز والعجب، إعجاز؛ لأنه كلام الله سبحانه، وعجب في توفيق من كتبوا في القراءات كلها كيف كتبوها؟! وقد كان القرآن لا مشكولاً ولا منقوطاً، فمثلاً: كيف قرءوا قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] فبدون تشكيل ولا تنقيط تكون (مسوا)، فهل هي تبينوا أو تتبعوا أو تثبتوا؟! فقراءة حمزة والكسائي (فتثبتوا) وقراءة الجمهور (فَتَبَيَّنُوا)، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وبكذا، فهم كتبوها حروفاً غير منقوطة، فلو كانت منقوطة لكانت قراءة واحدة فقط، ولكن كتبت غير منقوطة حتى تحتمل هذه القراءة وهذه القراءة، وقس على ذلك ما جاء في القرآن كله من قراءات، فقد جاءت في الآية الواحدة عدة قراءات، مثل: (غشاوة) و (غشوة) و (غدوة) و (غداة)، فهم كتبوها بغير نقاط ومن غير تشكيل ليجوز قراءتها على وجوه فيها، فالقراءات أخذوها من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهه، ومن بعدهم أخذ منهم وهكذا.