للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان حق الله على العبيد وحق العبيد على الله]

يقول معاذ: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلون) والحديث أخرجاه في الصحيحين وفيه حق الله سبحانه على العباد وهو أن تعبدوه وحده لا تشركون به شيئاً، وتعبدونه بشرعه الذي أنزله في كتابه والذي أرسل به النبي صلوات الله وسلامه عليه، هذا حق الله على العباد، وإذا فعلوا ذلك كان حقاً على الله سبحانه ألا يعذبهم سبحانه وتعالى فإذا فعل العباد الطاعات وانتهوا عن المعاصي هذا يقتضي أنهم يعبدون الله.

وعبادة الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.

فالعبد حين يكون عبداً لله موحداً له مطيعاً له عابداً له، يفعل ما أمر به، وينتهي عن ما نهي عنه، يستحق أن يكون من أهل الجنة، فإذا عصى الله سبحانه فهو في مشيئة الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإذا أشرك بالله وكفر فقد كتب الله عليه أن يكون في النار: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].

فالإنسان الذي يشرك بالله لا يغفر الله عز وجل له بل هو من أهل النار.

وجاء في حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:١٥١]، حتى فرغ من الثلاث الآيات ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله بها في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه) وهذا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح.

فالإنسان الذي يوفي بما عاهد الله عز وجل عليه في الدنيا فأجره أن يكون في الجنة، والإنسان الذي ينتقص من الحقوق التي أمر بها فإما أن يعاقبه الله عز وجل في الدنيا بالمصائب فالله يجعلها كفارة، أو أنه يتركه إلى يوم القيامة، فإن شاء عفا وإن شاء عذبه سبحانه وتعالى.

يقول الشارح: معاذ بن جبل هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة.

ومعاذ بن جبل كان سنه صغيراً حين أسلم رضي الله عنه فقد كان عمره حوالي ثمانية عشر سنة أو أقل من ذلك، مات رضي الله عنه وكان عمره ثمانية وثلاثين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهو الذي يقدم العلماء يوم القيامة ويسبقهم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يعني: في سن ثمانية وثلاثين سنة ويصل لهذا العلم العظيم الذي يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى الترمذي وهو حديث صحيح وفيه يقول أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) رضي الله عنهم فكل واحد من هؤلاء له فضيلة، وكلهم علماء ولكن أعلمهم بالحلال والحرام كان معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ويذكر معاذ بن جبل في هذا الحديث أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم كان راكباً حماراً ومعاذ خلف النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق ومع ذلك كان يركب حماراً عليه الصلاة والسلام، ويردف أيضاً خلفه وهو راكب عليه الصلاة والسلام فقال لـ معاذ: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟).

يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل.

إذاً: حق العباد على الله سبحانه وتعالى هو فضل من الله بأن يجعل هذا العبد يستحق من الله سبحانه، وليس أن العبد سيحاسب ربه ويقول له: لماذا لم تعطني، ولكن تفضل من الله على العبد أن يعطيه ذلك فقال: هو استحقاق إنعام وفضل وليس هو استحقاق مقابلة.

لما أقول: أنا ذهبت اشتري من البائع السلعة الفلانية، فهنا أنا أستحق أن آخذها وهو يستحق علي المبلغ -المال- فإذاً: استحقاق المقابلة هو المعاوضة، فهو سيعطيني سلعة وأعطيه مقابلها الثمن، والعباد لا يستحقون على الله هذا الاستحقاق فالعباد لم يعملوا شيئاً لله سبحانه وتعالى فهو الذي خلقهم وهو الذي رزقهم، وهو الذي أنعم النعم العظيمة على عباده، إذاً العبد لا يستحق شيئاً على وجه المقابلة، ولكن العبد فرض عليه أن يعبد الله سبحانه؛ لأنه خلقه، فلو أحصى نعم الله عز وجل عليه وأحصى عبادته فسيجد أن عبادته لا تبلغ أن تكون ثمناً لإدخاله الجنة يوم القيامة.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) وقال الله سبحانه وتعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].

فتنظر المعنى في الآية وفي الحديث فقوله في الآية: ((جزاء بما كنتم تعملون)) يعني: أنعم الله عز وجل عليكم بسبب أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، إذاً: عملك سبب للجنة، والباء هنا سببيه، وفي الحديث: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) والباء هنا تسمى باء الثمنية، يعني: عملك ليس ثمناً للجنة فعمل الإنسان ضعيف جداً ومهما عمل من عمل لن يكون ثمناً للجنة، ولكن يكون سبباً لدخول الجنة، فسبب دخولك الجنة العمل، أما ثمن الجنة فهو فضل الله عز وجل عليك أن أرشدك للعبادة وأن أدخلك الجنة فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) كثمن لهذه الجنة (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فالعمل سبب للجنة وليس ثمناً لها.

ثم يقول بعد ذلك: لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة -الله كتب على نفسه الرحمة- وأوجب على نفسه حقاً لم يوجبه عليه المخلوق.

ومن يوجب على الله شيئاً؟ ولكن الله سبحانه هو الذي كتب على نفسه الرحمة، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه، حاشا لله سبحانه، وقد قاسوا الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق، فيقولون كما أن المخلوق يجب عليه أشياء فالخالق كذلك.

فقالوا: العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وتناسوا قدرة الله سبحانه وإقداره لعباده على العمل، وقالوا: العبد هو الذي يفعل لنفسه.

فيقول ابن تيمية رحمه الله: قالوا: وإن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب لهذا الجزاء.

قال: وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية.

فهذه قدرية وهذه قدرية، ولكن القدرية الأولى قدرية جبرية وكلهم يتكلمون في قضاء الله عز وجل وفي أمر القضاء والقدر بكلامهم السخيف وبأفكارهم المنحرفة، فيقول القدرية أتباع جهم وهم جبرية أصلاً: إن العاصي حين يفعل المعصية هو مجبر عليها، حتى قال أحدهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فهو الذي قدر عليه ذلك، فإذاً هو مطيع في حالة الطاعة وفي حالة المعصية وهذا كلام لا يقوله إنسان يفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

والنوع الثاني: القدرية النافية، وهم النفاة للقدر، يقولون: إن الله لا يقدر شيئاً بل العبد هو الذي يقدر لنفسه أشياءه، فالله لا يقدر للعبد الشر، بل العبد هو الذي يعمل هذا الشر والعبد خالق لفعله، فهؤلاء القدرية النفاة، يعني: النفاة لتقدير الله عز وجل، ونحن حين نتكلم في أمر القضاء والقدر نفصل في هذا الشيء.

يقول ابن القيم في العبادة: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان عبادة الله سبحانه وتعالى أن تحب الله أكمل وأعظم الحب، وأن تخاف من الله سبحانه وتذل نفسك له أعظم الذل فلا يجتمع ذلك إلا لله عز وجل؛ فتحب الله ومع ذلك تكون ذليلاً بين يديه سبحانه وتعالى.

قال هنا: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ولم يقل أحداً، ولكن قال شيئاً فيدخل تحته كل شيء من دون الله عز وجل، فمن عبد شيئاً وكل إليه يوم القيامة قال: (ولا يشركوا به شيئاً).

أما حق العباد على الله الذي تفضل ومنحهم إياه قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فمن مات على حقيقة التوحيد فالله عز وجل لا يعذبه، فإتيانه بالتوحيد يدفعه لعبادة الله سبحانه حتى وإن وقع في بعض المعاصي فالله يغفر له بإيمانه وبتوحيده وهو في مشيئة رب العالمين يوم القيامة ولكن في النهاية المؤمن الموحد لرب العالمين يدخله الله عز وجل الجنة وإن أصابه قبل ذلك من النار ما أصابه.

ولما سمع معاذ بن جبل ذلك -وهو يحب الخير للناس رضي الله عنه- قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس) أفلا أقول للناس: إنه من مات على التوحيد دخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبشرهم فيتكلوا) لا تقل للناس هذا الشيء، فلعل منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم فلعلهم يتكلون ويقولون مثلما يقول كثير من الناس الآن: أنا أقول لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فليس مهماً عنده معرفة شروط لا إله إلا الله، وليس مهماً أن يفهم معنى لا إله إلا الله، فإذا سألته ما معنى لا إله إلا الله؟ يقول لك: الله الذي خل

<<  <  ج: ص:  >  >>