للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العذر بالجهل في مسائل الشريعة وضوابطه]

ومما جاء عن الشيخ محمد حامد الفقي في رسالة من رسائله قوله: إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر البدوي من العوام لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يكفر ولم يقاتل؟ وكأنه يرد على من يقول: أنتم تكفرون الناس، فبعض الناس عندما يدعى إلى التوحيد وترك الشرك يقول: أنتم تكفرون الناس، فيرد عليهم ويقول: نحن لم نكفر أولئك مع أن ما يفعلونه كفر، وعذرناهم نكفرهم لأنهم جهال لم يعرفوا حقيقة الأمر.

وهنا دليل على مسألة العذر بالجهل، فالذي يقع في الشرك بالله سبحانه وهو يعلم أن هذا شرك فهو كافر خارج من دين الإسلام، أما الذي يقع فيه وهو لا يعلم ذلك، وإنما يعتقد أنه محسن وهو في حقيقة أمره مسيء في ذلك، وذلك لبعده عن العلماء وعن الأخبار الشرعية فيعذر بجهله.

يقول الله سبحانه وتعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩]، فالنبي صلى الله عليه وسلم منذر، قال الله له: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:٧]، أي: ولكل قوم مرسل يهديهم ويدلهم، فإذ لم يصلهم كلام الله عز وجل، ولم يبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيعذرون في ذلك حتى يبلغهم هذا الدين العظيم.

يقول الله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥].

أي: لا نعذب أحداً من الخلق حتى نبعث رسولاً معه رسالة، ولم يقل: حتى نبعث نبياً، بل رسولاً معه رسالة من عند رب العالمين يخبر الناس ويبلغهم، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].

فجاء الذكر من عند رب العالمين على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبين للخلق ما جاء من هذا القرآن العظيم.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يتبعني إلا أدخله الله النار).

ففيه أن الإنسان الذي تبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا يشترط أن يبلغه كل شيء فيها، ولكن يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسمع عن الرسالة، ويرفض أن ينظر في هذه الرسالة العظيمة وأن يتبعها، فيكون مآله إلى النار، والعياذ بالله.

فمن لم يبلغه شيء من هذا الدين يعذر بالجهل، ومن بلغه شيء وجب عليه أن ينظر فيه، فإذا نظر فيه فقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولزمه اتباع هذا الدين.

فإذا رفض ذلك ورده بعد أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فسوف يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة على أنه رد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على العذر بالجهل: ما رواه البخاري ومسلم عن رجل ممن كانوا قبلنا قال لبنيه: إذا أنا مت فحرقوني، ثم ذروني في يوم شديد الريح، فإنه إن يقدر الله عليه ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

فالرجل قال كلمة كفرية، وهي: إنه إن يقدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين؛ لأنه كان رجلاً مسرفاً على نفسه، ومن اعتقد أنه يقدر أن يهرب من الله أو يعجز الله سبحانه وتعالى فإنه يكفر بذلك.

فلما مات أخذوه وأحرقوه، وفي يوم شديد الريح ذروا نصفه في البر ونصفه الآخر في البحر، فجمعه الله سبحانه وتعالى كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأمر الأرض أن تأتي بأجزائه منها، وأمر البحر أن يأتي بأجزائه منه، فالأرض والبر والبحر كلها جنود من جنود الله سبحانه، فقام الرجل بين يدي الله عز وجل فسأله ربه: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال الرجل: خشيتك يا رب)، يعني: خوفي منك جعلني أجهل قدرك، فظن مع شدة خوفه من الله عز وجل أنه يقدر أن يهرب من الحساب بهذا الذي فعله فغفر الله له وعذره بجهله، وكذلك عذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بجهلهم، بل لما ذهب معاذ رضي الله عنه إلى الشام -وهو سلطان العلماء- وجد أهل الشام يسجدون لأحبارهم ورهبانهم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له فقال: (ما هذا يا معاذ؟! قال: وجدتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق بذلك، قال: لا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعل، فالسجود لغير الله لا يجوز في شريعتنا، وإن كان قد يجوز في الشرائع التي من قبلنا، كما ذكر الله عز وجل أنه أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، وهذا سجود تحية.

ولما جاء أبوا يوسف عليه الصلاة والسلام دخلوا عليه وإخوته وخروا له سجداً يحيونه، وذلك كان جائزاً في الشرائع من قبل، أما في شريعتنا فلا يجوز السجود إلا لله سبحانه.

فلما فعلها معاذ، وفعلها غيره مع النبي صلى الله عليه وسلم نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله، وأخبره أنه لا يجوز السجود إلا لله سبحانه، ولم يكفره بهذه الشيء الذي فعله رضي الله تعالى عنه.

وكذلك الجواري اللاتي كن يغنين فقالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد.

ومن اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد وقع في الكفر بالله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما يعلمه الله عز وجل عن طريق الوحي، أما هو بذاته فلا يعرف الغيب عليه الصلاة والسلام، وقد أمره ربه سبحانه في القرآن أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:٥٠]، فمن ادعى أنه يعلم الغيب فكأنه يكذب كلام رب العالمين.

فلما قالت الجارية ذلك نهاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (لا تقولي هذا، لا يعلم الغيب إلا الله، قولوا ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)، أي: لا يأخذكم في الوقوع في مثل هذا الأمر.

والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أصحابه بعضاً مما وقعوا فيه بدافع جهل بعضهم، فلما مدح صلى الله عليه وسلم بشيء لا يصح أن يمدح به قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، ومع ذلك لم يكفرهم صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهم بأن يعودوا إلى الإسلام من جديد، وإنما عذرهم في ذلك، فقد يكون القول والاعتقاد من الكفر الأكبر المخرج لصاحبه من الملة، ولكن مع ذلك يعذر صاحبه لكونه يجهل هذا الأمر، ولبعده عن بلاد المسلمين، أو لكون هذا الأمر مما لا يعلمه إلا القليل.

إن من أنكر آية في كتاب الله عز وجل فقد كفر، ومن أنكر حكماً مجمعاً عليه فقد كفر، ولكن قد يعم الجهل في الناس فلا يعرفون أشياء هي في كتاب الله سبحانه، وعلى العموم من أنكرها فقد كفر، ولكن على الخصوص ينظر في هذا الذي ينكرها، هل يعلم أو لا يعلم.

ففي عهد عمر رضي الله عنه قال رجل من أهل الشام أناس يحدثونه عن الزنا، فقال: زنيت البارحة، فقيل له: سبحان الله ما تقول؟ قال: زنيت البارحة وأعلموه أن الله عز وجل حرمه، فقال: ما علمته إلا الآن، فرفعوا الأمر إلى عمر رضي الله عنه فأخبرهم أنه إذا كان كما يقول فلا ترجموه.

ورجل آخر وقع بجارية امرأته ظناً منه أنها تحل له، فرفعوا أمره إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما علم عمر أن هذا الرجل جاهل عذره بجهله ولم يقم عليه الحد، وإنما عزره وقال: إن عاد فارجموه.

وليس معنى ذلك أن يفتح باب العذر بالجهل لكل من ارتكب جريمة أو معصية، ولكن يخوف ويعلم الحكم الشرعي، وأن هذا كفر مخرج من الملة، والواجب التوبة منه.

وأيضاً لا يجوز لإنسان أن يكفر كل الناس، فلعله يكفر أباه وأمه، فإذا مات أبوه أو ماتت أمه يرث الاثنين، مع أنه إذا كانا كافرين فلا يجوز له أن يرثهما، ثم كيف يكفرهما ثم يدفنهما في مقابر المسلمين، مع أن الكافر لا يدفن في مقابر المسلمين، فالإنسان قد يقع بدعوة تشدد في شيء، ثم يناقض نفسه فيما ينبني عليه هذا الشيء الذي يقوله.

<<  <  ج: ص:  >  >>