للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعريف العيد]

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العيد اسم لما يعود من اجتماع عام على وجه معتاد عائد، فهو اجتماع للناس كلهم على وجه يعتادونه في كل سنة مرة، أو في كل شهر مرة، وهكذا.

يقول: إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر، والمراد به في هذا الحديث الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية.

فالعيد يجمع أموراً منها أنه عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع الناس فيه، ومنها أنه تعمل فيه أعمال من العبادات والعادات.

وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، أي: قد يوجد مكان يسمى العيد أو أنه يطلق على اجتماع الناس.

يقول: وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً ويدلل عليها بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

منها: ما رواه ابن ماجة بإسناد حسن: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في يوم الجمعة: إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيداً) ويوم الجمعة عيد بمعنى أنه يعود كل أسبوع فيجتمع المسلمون للصلاة فيه فجعله الله عز وجل عيداً للمسلمين.

كذلك في اجتماع الأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: والحديث في الصحيحين وفيه أنه شهد العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم.

يعني: شهد أعمال العيد في هذا اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فالعيد نفسه لا يشهد، وإنما أعمال العيد هي التي تشاهد.

كذلك يطلق على المكان كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً).

واتخاذ القبر عيد هو بأن يجتمع عليه الناس لعبادة معينة تنافي توحيد الله سبحانه وتعالى، كأن يجتمعوا فيدعون النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن يدعوا الله سبحانه وتعالى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً) والحديث صحيح رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني.

أيضاً: يكون العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً).

وهذا لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته فوجد عائشة رضي الله عنها ومعها جواري يغنين معها في يوم عيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم ولاهن ظهره ونام وابتعد عن ذلك، ودخل أبو بكر فنهرهن وفرقهن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً).

أي اتركهن فإن هذا عيد، فيطلق العيد على اليوم وعلى الاجتماع فيه وعلى ما يكون في هذا اليوم من أفعال.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) أي: هذا المكان هل كان المشركون يجتمعون فيه على شيء من العبادات الباطلة سواء في زمن معين أو حتى مجرد اجتماع لعبادة غير الله سبحانه؟ فلما قالوا: (لا.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك).

لأن الإنسان قبل أن ينذر لا يلزمه شيء، والذبح لا يجب عليه إلا إذا كان في حج وكان متمتعاً أو قارناً، أو أتى بشيء مما يلزمه فيه الفدية من محظورات في الإحرام ونحو ذلك، أما غير ذلك فلا يجب الذبح على الإنسان إلا للنذر فإذا نذر وجب عليه أن يوفي بنذره.

فهذا ألزم نفسه بهذا النذر أن ينحر إبلاً في مكان يقال له بوانة.

وفي حديث آخر رواه أبو داود ولعله في نفس الحادثة عن سارة بنت مقسم الثقفية أنها قالت: سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت مع أبي في حجة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعني: جاء في حجة الوداع.

قالت: فجعلت أبده بصري، يعني: جعلت أنظر إليه كأنها من مكان بعيد كانت تنظر إليه، فدنا إليه أبي وهو على ناقة ومعه درة كدرة الكتاب.

قالت: فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية، يعني: المشي على المهل، فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت: فوقف له عليه الصلاة والسلام واستمع منه، فقال: (يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم).

في هذا الحديث ذكر أنه سينحر مجموعة من الأغنام، والحديث الأول ذكر أنه نذر أن ينحر إبلاً فلعله نفس الرجل أو غيره.

فالغرض أنه بين سبب النذر فقد كان ينجب إناثاً فنذر لو أن الله وهبه ولداً أن ينحر إبلاً في هذا المكان أو يذبح غنماً فيه.

الرواية هنا أنه كان سيذبح خمسين رأساً من الغنم في هذا المكان.

قالت: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا.

قال: فأوف بما نذرت لله).

أي: طالما أن المكان لم يذبح فيه لغير الله عز وجل ولا كان فيه عيد من أعياد الجاهلية -حتى لا يتشبه بهؤلاء- فاذبح لله عز وجل في هذا المكان.

وفيه: أن المسلم يحرص على عدم التشبه بالمشركين في شيء مما كانوا يصنعونه في جاهليتهم وكفرهم.

وفيه أيضاً: طالما أنه نذر شيئاً مباحاً يجوز له أن ينذر فيه فيجب عليه الوفاء بهذا النذر الذي نذره.

وأيضاً قالوا في هذا الحديث: إن المفتي إذا سمع شيئاً فلا يتعجل بالإجابة حتى يستفصل فلعله يكون وراء ذلك شر، فالرجل قال: أنا نذرت لو أني ولد لي ولد أن أذبح خمسين شاة في هذا المكان أو أنحر إبلاً في هذا المكان، والأصل الوفاء بالنذر، والله عز وجل مدح الذين يوفون بالنذر بقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧]، ولكن لما كانت أحوال الناس تختلف ومن الممكن أن يكون هذا المكان بالذات له في نفوس الناس شيء كشبهة من الشرك لذلك استفصل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هذا المكان كان فيه من أوثان الجاهلية؟ وهل كانوا يعبدون فيه غير الله سبحانه؟ وهل كان فيه عيد من أعياد الجاهلية؟ ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اذبح في هذا المكان بدون استفصال، فسيقول الناس: النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك، وقد كان آباؤنا على الصواب فإنهم كانوا يذبحون في هذا المكان لبركة المكان، فيتذكرون ما كان فيه من تماثيل وأصنام فيرجعون لعبادة الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وأخبر أنه سيرجع مرة ثانية وقال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة وكان صنماً لدوس تعبده في الجاهلية بتبالة) ونساء دوس، أي: نساء قبيلة دوس فسيرجعن مرة أخرى يطفن بالأصنام في هذا المكان الذي هدم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وسيعود الناس إلى الشرك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وحذر من الذرائع التي توقع الناس في الشرك بالله سبحانه وتعالى.

وفي الحديث أيضاً: المنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله وهذا مأخوذ من باقي الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله) فلو كان هذا المكان فيه عيد من أعياد الجاهلية لمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء بالنذر فيه.

إذاً: أنت نذرت أن تذبح في هذا المكان وكان فيه شرك بالله فلا يجوز لك أن توفي به في هذا المكان، لكن أصل النذر موجود إلا أن يكون النذر بذاته لغير الله فلا يجوز الوفاء به ويكفر عن هذا النذر.

قال: (ولا فيما لا يملك ابن آدم).

والإنسان لو نذر شيئاً لا يملكه لم يلزمه الوفاء به، ولا يجوز له أن ينذر بذلك كأن يقول: لله علي إن أعطاني كذا أن أعتق عبد فلان؛ لأن العبد الذي يملكه فلان أنت لا تملكه وقد لا تقدر على شرائه من سيده فيكون هذا النذر لا يجب عليك الوفاء به وعليك كفارة يمين في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين).

وكذلك فيما لا يطيق ابن آدم.

فالإنسان إذا نذر شيئاً لا يطيقه أو نذر نذر معصية فيلزمه أن يكفر كفارة يمين.

وجاء عن أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين).

رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني بشواهده.

<<  <  ج: ص:  >  >>