للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسجد الذي أسس على التقوى]

ثم عظم الله شأن مسجد قباء ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨].

فالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، قالوا: هو مسجد قباء.

وقالوا: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل غير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل في المدينة على الأنصار خط في المكان الذي نزل فيه مسجداً عليه الصلاة والسلام، فأي مسجد خطه النبي صلى الله عليه وسلم وبناه فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقد جاء في حديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم.

فقال رجل: هو مسجد قباء.

وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا).

وقباء كان قبل المسجد النبوي ولكن أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجده أنه أسس على التقوى من أول يوم وذلك لا ينافي أن قباء أيضاً كذلك وإنما فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه ركعتين صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (صلاة في مسجد قباء كعمرة).

وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً).

فذهب بعض أهل العلم إلى أنه هو المسجد الذي أسس على التقوى ومنهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم، والحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري يبين أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره.

وإذا قيل: هو مسجد أسس التقوى فلا شك في أنه أسس على التقوى وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء كذلك أسس على التقوى من أول يوم وكان قبل بناء مسجده عليه الصلاة والسلام.

فالغرض أن كلا المسجدين قد أسس على التقوى وقد مدح الله عز وجل قباء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الثاني وهو المسجد النبوي.

قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨].

وقد روى الإمام أحمد وابن خزيمة عن عوين بن ساعدة الأنصاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم).

وهذا بيان أن مسجد قباء أسس على التقوى؛ لأنه هنا متعلق بالآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:١٠٨] فالحديث هنا يبين أنه مسجد قباء أيضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟) والطهور بمعنى: التطهر، والطهور بمعنى: الآلة المستخدمة في التطهر.

فيكون الطهور الوضوء أو الغسل أو التنظف بالاستنجاء ونحوه.

والطهور: الماء الذي يستخدم في ذلك.

فهنا أثنى عليهم الله عز وجل بالطهور، فقال هنا: (ما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو ذاك فعليكموه).

والحديث له أسانيد حسنة وذكر الألباني في الإرواء أنه صحيح.

والحديث فيه أن الله عز وجل قال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:١٠٨] وذكر في الحديث هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأهل مسجد قباء فدل على أن مسجد قباء مقصود بهذه الآية، ومسجد قباء الصلاة فيه ركعتين كعمرة لكنه لا يعدل فضيلة مسجده عليه الصلاة والسلام، فإذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجده من باب أولى فلذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا المسجد هو المسجد النبوي.

فدل الحديثان على أن مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده عليه الصلاة والسلام أيضاً أسس على التقوى.

والمدح لأهل قباء وهم من الأنصار والأنصار كانوا معاشرين لليهود في المدينة، وكانت عادة القرشي أنه إذا أتى الغائط أو أتى البول استجمر بعده لقلة المياه عندهم، وقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم استخدام ثلاثة أحجار في التنزه وما كانوا يعتادون استخدام الماء في مكة لأنه إن وجد فيكون قليلاً ونادراً، لكن في المدينة كان أحدهم إذا أتى الغائط يستجمر بالحجر ثم يستنجي بالماء، وكأنه بالحجر يخفف وبالماء يزيل ما تبقى، فمدحهم الله عز وجل على حبهم للتطهر ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا: كنا نتبع الحجارة الماء، ليكون أنقى.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو ذاك فعليكموه).

ولما ذكر الله عز وجل مسجد الضرار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة:١٠٧] والمنافقون كذابون، فكانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل سيكذبون على الله يوم القيامة.

فقال الله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:١٠٧] أي: يحلفون لك كذباً أنهم أسسوا هذا المسجد للتقوى وللعبادة والله يشهد إنهم لكاذبون، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨].

<<  <  ج: ص:  >  >>