للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح البسملة]

قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أي: ابتدأ كتابه بالبسملة، والبسملة كما نعرف هي: بسم الله الرحمن الرحيم، ويسميها علماء البيان نحت، يعني: تحويل الجملة إلى كلمة، مثلما تقول: الحوقلة وهي قول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو الحولقة على الأصح فيها، والحمدلة والتهليل فهذا نحت من أصل جملة.

وذكر هنا أنه بدأ بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، وهذا صحيح فكل سورة في كتاب الله عز وجل من أول القرآن إلى آخره -إلا سورة براءة- في أولها بسم الله الرحمن الرحيم.

قال: وعملاً بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) هذا حديث ضعيف جداً.

ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع) وهو حديث ضعيف.

قوله باسم: الباء متعلقة بشيء محذوف كأنه يقول: أبدأ كلامي باسم الله سبحانه، فكأن مقصده ابتدئ في تصنيفي وفي تأليفي ذاكراً الله سبحانه مستعيناً بالله سبحانه، فقال: هذه متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلاً خاصاً متأخراً، وكأنه يقول: باسم الله ابتدائي قال: وباء باسم الله قالوا: للمصاحبة، يعني: أستصحب اسم الله سبحانه فيما سأكتبه وأذكره أو أستعين باسم الله تبارك وتعالى في ذلك، مسمياً الله سبحانه وتعالى وذاكراً اسمه (الله)، وأصل كلمة الله الإله، وهذا ما اختاره الكسائي والفراء من علماء اللغة قالوا: أصله الإله وحذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام؛ قال: واختلفوا هل هذا الاسم العظيم المبارك (الله) جامد أو مشتق من شيء آخر، فنحن لما نقول مثلاً: (الرحيم) فهو مشتق من رحمة الله رب العالمين سبحانه، و (الرءوف) مشتق من الرأفة، وعلى هذا فهل اسم (الله) مشتق أم جامد؟ فمن العلماء من يقول: هو لفظ مرتجل جامد وقيل: هو مشتق: قال ابن القيم والصحيح أنه مشتق وأن أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى.

يقول ابن القيم موضحاً معنى الاشتقاق: إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، يعني: هو مشتق يدل على صفة لرب العالمين سبحانه وتعالى وهي صفة الإلهية - تقول: إلهية أو ألوهية كسائر أسمائه الحسنى أسمائه الحسنى، مثل: (العليم) مشتق من العلم، و (القدير) من القدرة، و (السميع) من السمع، و (البصير) من البصر، فهذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب- هذا كلام ابن القيم رحمه الله- يقول: وهي قديمة ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى.

يقول الطبري: الله أصله الإله، وذكر ما ذكرناه قبل ذلك، قال: وهو الذي يألهه كل شيء، أي: يعبده كل شيء، وقال: قال ابن عباس: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه فهو الإله، قال: فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود؟ قلنا: قال رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدهِ سبحن واسترجعن من تألهِ والتأله بمعنى العبادة قال: سبحن واسترجعن من تأله أي: من تعبد وطلب الله بعمل.

قال: ولا شك أن التأله التفعل من أله يأله، وهذا أصلها في اللغة والفعل فيها أله يأله بالفتح فيهما، إذاً: أله أي: عبد، وقيل: بل من ألِهَ، كأنه مثل ولِهَ: بمعنى تحير، يعني أن الله سبحانه وتعالى يُتحير فيه فإذا أعمل الإنسان عقله لينظر ويشاهد جلال الله سبحانه وتعالى ويتفكر في ذاته فإنه يتحير، وإنما عليه أن يتفكر في مخلوقات الله التي تدل عليه سبحانه وتعالى.

ولذلك قالوا: الله مشتق وقيل مرتجل وهو أعرف المعرفات جل أله أي عبد أو من الأله وهو اعماد الخلق أو من الوله أو المحجب عن العيان من لاهت العروس في البنيان يقول ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساق هذه الخصائص اللفظية، ثم قال: وأما خصائص هذا الاسم المعنوية، قال أعلم الخلق وهو النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، يعني: مهما حاول أن يحصي صفات الله التي يمدح عليها فلن يستطيع أن يحصي هذه الصفات لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الخلق وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق وكل مدح وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل عز وكل جمال وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر، فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا خوف إلا أزاله، ولا هم ولا غم إلا فرجه، ولا ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنياً ولا مستوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه إلى آخر كلام ابن القيم رحمة الله عليه وهو كلام جيد.

ساق قبل ذلك عن ابن عباس أنه قرأ: (ويذرك وإلهتك) كأن معناها: وعبادتك، يعني: أن قوم فرعون قالوا له: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك.

وهذه ليست من القراءات العشر المتواترة، وإنما هي قراءة شاذة غايتها أن يقال: هناك قول لـ ابن عباس رضي الله عنه: أن الإله بمعنى العبادة، لكن ليست قراءة يقرأ بها القرآن.

أيضاً ساق حديثاً عن أبي سعيد مرفوعاً: (أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب باسم الله، فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة)، ولا شك في ذلك ولكن الحديث لا يصح.

قال: بسم الله الرحمن الرحيم.

والرحمن من صفاته وأسمائه الحسنى سبحانه وتعالى فهو الرحمن الرحيم وبين الاسمين التقاء في المعنى أنه رحيم بعباده سبحانه من الرحمة ورحمن من الرحمة، ولكن يقول العلماء: أن بين الاثنين فرقاً، فالرحمن: دال على صفة رحمة قائمة به سبحانه وتعالى، فهو الرحمن الذي لا يشبهه شيء في رحمته العظيمة سبحانه وتعالى، ولا يتسمى بهذا الاسم أحد غيره ولم يتسم به إلا كذاب كرحمان اليمامة وقد ذكر الله عز وجل اسمه ثم قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥] أي: هل تعرف أحداً يتسمى بهذا الاسم؟ فلم يتسم أحد باسم الله، ولا باسم الرحمن.

فلفظ الجلالة لم يطلق على أحد غيره سبحانه، قد يقولون: هذا إله فلان وهذا إله فلان، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له سبحانه، وقد يحرفون هذا الاسم فيقولون اللات، أما الله فهو اسمه وحده لا شريك له، قد يحرفون العزيز ويقولون: العزى أما العزيز فهو الله سبحانه وتعالى وقد يطلق على غير الله سبحانه وتعالى كوصف، لكن الغرض: أن الرحمن اسم لله سبحانه وتعالى كما أن الله علم عليه وحده لا شريك له، لكن في معنى الرحمن قالوا: إنه رحمان بجميع خلقه فهو خلق ورزق وأعطى سبحانه فهو رحمان بجميع خلقه سبحانه، والرحيم رحمة خاصة تتعلق بالمؤمنين.

ولذلك ذكر أن الرحيم من صفة للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:٤٣] والله عز وجل كذلك رحيم بالمؤمنين، فالرحمن هو رحمان بجميع العباد، وصفة الرحمن من مقتضاها: أن ينزل الكتب من السماء على قوم كانوا كفاراً رحمة بهم ليدخلوا في دينه، فهو رحمن لأنه نزل الكتب وأرسل الرسل ليقيم الحجة على عباده، وهو رحمن لأنه أرسل الرسل لجميع الخلق ليدخلوا في دينه سبحانه وتعالى، والرحيم مختص بالمؤمنين يوم القيامة فيوم القيامة لا يرحم الكافرين ولا يرحم المشركين، فكأن صفة الرحمن للجميع في الدنيا والرحيم في الدنيا وفي الآخرة وتختص بالمؤمنين؛ ولذلك يكون بينهما عموم وخصوص، فالرحمن فيه عموم وخصوص، والرحيم فيه عموم وخصوص، فالرحمن خصوصه أنه لا يتسمى به إلا الله سبحانه وتعالى، أما الرحيم فقد يوصف به غير الله فيقال: فلان رحيم، وعموم الرحمن أن رحمته عامة في الدنيا من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وإعطاء العقول، والرزق، وإعطاء النفع، وغير ذلك من فضل الله سبحانه، وهذه رحمة واسعة بجميع الخلق، فالكافر حين يعمل شيئاً فإن الله يعطيه في الدنيا فيكثر ماله ويعطيه الولد، أما الخصوص الذي في الرحيم فهو أنه يرحم المؤمنين فقط في الدنيا وفي الآخرة.

والعموم الذي فيه أنه يتسمى به الله سبحانه وتعالى، ويوصف به غير الله سبحانه وتعالى فيجوز أن يقال: فلان رحيم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>