للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسائل مستفادة من هذا الباب]

يقول المؤلف رحمه الله: (فيه مسائل منها: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) وهذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (الشرك أخفى على القلوب من دبيب النمل على الصفا).

فقد يدعو الإنسان إلى الله عز وجل، ولكنه في دعوته يريد الشهرة والذكر، فالجزء الذي دخله الرياء من عمله يبطله وليطلب أجره من غير الله.

وما من إنسان إلا ويحدث له ذلك قل أو كثر فيستعين بالله سبحانه، ولا يترك الدعوة إلى الله سبحانه، فإذا وجد وسوسة الشيطان: افعل كذا حتى يقال كذا تعوذ بالله عز وجل منه، ولا يترك الدعوة إلى الله أبداً.

والشيطان يحاول أنه يبعد الإنسان عن ربه، وقد يدخل الإنسان في الصلاة ثم يقول له الشيطان: طول قليلاً حتى ينظر الناس إليك من أجل أن يمدحوا صلاتك، أو حسن صوتك من أجل الناس، فعلى الإنسان أن ينقي نفسه من ذلك، ولا يفعل العكس، ولكن إن أراد فليطل صلاته ابتغاء وجه الله سبحانه ولينفي عن نفسه ما يقول له الشيطان، ولا يصبح لعبة له يلعب به، فيدخل في الصلاة ويبتدئ الشيطان بقوله: طول قليلاً من أجل الناس؛ فيقصر حتى يؤثر في أركان الصلاة فتضيع صلاته وتبطل.

ولكن ليطل في الصلاة وليحسن نيته ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليحسن صوته في القراءة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، فحسن صوتك لا من أجل الناس، لكن امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الشيطان يأتي في كل عمل من الأعمال يريد قطعها وله ثلاث حالات: إما أن يأتي للإنسان من البداية فيزين له الشهوات وبذلك يترك العبادات، أو يلبس عليه بالشبهات فيتركها، أو لا يقدر على هذه ولا هذه فيأتيه من باب الرياء في عبادته، فعليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويقف مع نفسه وقفة محاسبة، ويخلص عمله لله سبحانه، والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وما من إنسان إلا ويوسوس له الشيطان، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف ندفع هذه الوساوس بأن نتعوذ بالله من الشيطان، وأن يتفل الإنسان عن يساره ثلاثاً كما جاء في الحديث (إذا جاء الشيطان أحدكم يلبس عليه صلاته فليتفل عن يساره ثلاثاً) أي: يفعل ذلك، ولكن لا يترك العمل من أجل الوسوسة.

فعليك أيها الداعية أن تحسن نيتك وتخلص لله سبحانه وتعالى، ولا تستمع لمن يمدحك؛ فإنه يقصم ظهرك ويقطع رقبتك، وأنت أعلم بنفسك، وكفى بالإنسان نقصاناً أن يعرف نقص نفسه ثم يصدق مدح الناس له، أما الإنسان المخلص فيكون صادقاً، مع أنه عمل هذا العمل لله وهو مقصر فيه، ولكن غاية فعله ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.

وإياك أن تصغي لمن يمدحك؛ فإنه يعينك على المعصية وعلى الرياء لا على طاعة الله سبحانه.

وكذلك على المسلم ألا يعين غيره على الرياء، كأن يرى شخصاً يصلي فيمدحه أمامه، أو يحضر درساً فيقول للقائم به: ما سمعت مثل هذا الدرس.

فالذي صلى أو ألقى الدرس أعلم بنفسه وأنه أخطأ فيه كثيراً، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، أي: أفعلوا حتى لا يقصموا ظهوركم، وقال للذي مدح الآخر في وجهه: (قطعت عنق أخيك).

فالإنسان المؤمن أعرف بعيوب نفسه، فإذا تذكر أنه أحسن؛ فليتذكر أنه يسيء، وإذا تذكر أنه في العمل الفلاني أتقنه؛ فليتذكر أنه في غيره لم يتقن.

فلا يزال على ذلك يتهم نفسه حتى يخلص من الرياء ولا يقع في الشرك بالله سبحانه.

لكن ليحذر ترك العمل فذلك ما يريده الشيطان، فهو يريدك أن تترك الصلاة إما ابتداءً أو بإدخال الرياء عليها لتفسدها.

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فيه مسائل -أي: في هذا الباب- منها: التنبيه على الإخلاص)؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.

ومنها: أن البصيرة من الفرائض.

ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه لله سبحانه عن المسبة.

أي: توحد ربك سبحانه وأنت موقن أنه لا شريك له، ولا شبيه، ولا ند له، ولا نظير له.

أما غير الله عز وجل ففيه نقصان، والله وحده له الكمال سبحانه وتعالى.

ومنها: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله سبحانه وتعالى.

ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك.

يعني: الإنسان يتبرأ من الشرك والمشركين خوفاً على نفسه أن يقع في ذلك.

يقول ابن القيم رحمه الله: ذكر الله سبحانه وتعالى مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو يعني: في قول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، قال: إما أن يكون طالباً للحق محباً له، مؤثراً له على غيره، فهذا يدعى بالحكمة.

يعني: تدعو من يريد أن يتعلم يعرف الحق بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدل؛ لأنه قابل للنصح.

قال: وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق لكنه لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.

ومعنى كلامه: أن الإنسان قد يكون مشغولاً بالباطل، أو باللهو، أو بالشبهات، لكن لو عرف الحق فهذا يدعي إلى الله سبحانه بالحكمة وبالموعظة، وضرب الأمثال فإنه يستجيب.

ثم قال: وإما أن يكون معانداً معارضاً، فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد.

قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، فإذا كان يوجد جدل حسن فجادل بالذي هو أحسن، ففي الآية أمر الإنسان المؤمن أن يجادل بالأحسن لا أن يجادل بما يؤدي إلى التشاجر والخصام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، متفق عليه.

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن في العام التاسع من هجرته صلى الله عليه وسلم، وظل هناك حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع بعد وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه.

أرسله معلماً وحاكماً يحكمهم بشرع الله سبحانه، ويعلمهم الحلال والحرام، إذ كان أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه وذلك بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يسبق العلماء يوم القيامة بخطوة.

ومع علمه رضي الله عنه بالحلال والحرام قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب).

المعنى: أن هؤلاء ليسوا مثل المشركين الذين في مكة، إنما هم قوم أهل كتاب وعندهم علم، فهم يحتاجون لنوع معين من التعليم ونوع معين من الجدل ليقتنعوا.

ثم ذكر له النبي صلى أول ما يبدأ به في دعوتهم.

فقال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: إلى أن يوحدوا الله).

وتأمل هنا كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً -وغيره بالتبع- كيف يدعو الناس، فلا بد أن يكون الداعي على علم بحال المدعو وبما يناسبه، لا أن يبدأ في الجدل معه على جهل بحاله، فقال له: (أنك ستأتي قوماً أهل كتاب)، أي: سيجادلونك بالتوراة، وبما عندهم من علم فجهز ردك عليهم، وفكر في طريقة الجدال معهم، وكيف تقنعهم، فهم أهل كتاب عرفوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعرفوا علامات النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أشركوا بالله سبحانه فعبدوا غيره قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:٣٠].

فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فلا تبدأ معهم في إثبات وجود الله تعالى، وأنه الذي خلق السماوات والأرض، فهم يعرفون ذلك بل ابدأ في دعائهم إلى التوحيد؛ لأنهم مشركون.

إذاً: لا تعلمهم شيئاً يعرفونه فيكون ذلك تحصيل حاصل، ولكن علمهم ما يجهلونه، وما وقعوا فيه من أخطاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>