للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد]

قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:٢٦ - ٢٨].

سيدنا إبراهيم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه وأبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:٢٦] أي: إنني أبرأ إلى الله عز وجل من شرككم، وكانوا يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله تعالى فلما عصوا وأصروا على ما هم فيه تبرأ منهم ومن عبادتهم الباطلة، وقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} [الزخرف:٢٦] أي: بريء منكم ومما تعبدون من دون الله، ولكن أعبد إلهاً واحداً، قال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:٢٧].

إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان واحداً يدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك لما قال للملك عن زوجته: إنها أختي.

قال: وليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك.

يعني: في هذا المكان الذي هو فيه، وإن كان لوط في مكان آخر عليه الصلاة والسلام وهو مسلم لله، ولكن الغرض أن الذين يعبدون الله عز وجل كانوا قلة في زمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

فقال متبرئاً من هؤلاء الكفرة الذين يعبدون غير الله: أنا بريء مما تعبدون، ما نظر إلى ضعفه وقوتهم إلى عددهم وهو وحده، لا ولكن تبرأ من هؤلاء وأتى ربه سبحانه بقلب سليم، فجعله الله إمام الحنفاء، وأبا الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

هنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في بلده العراق يدعو إلى الله أهله الذين عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، ثم هاجر إلى الشام فوجدهم يعبدون النجوم والكواكب من دون الله، فدعا هؤلاء ودعا هؤلاء والجميع لم يستجب له وهو مصر على دعوته، متبرئاً مما هم فيه من باطل.

تدبر كيف عبر الخليل عليه الصلاة والسلام عن هذه الكلمة الطيبة بمعناها الذي دلت عليه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:٢٦ - ٢٧] هو نفسه معنى كلمة لا إله إلا الله، يعني: كل ما تعبدونه آلهة باطلة لا أعبدها إلا إلهاً واحداً هو الله، هذا مقتضى لا إله إلا الله.

وقال الله سبحانه تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١]، هؤلاء عبدوا الشمس والقمر، وعبدوا النجوم والكواكب والأصنام من دون الله، وأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما في حديث عدي بن حاتم قال: (انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية.

قال: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم.

قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم).

الحديث رواه الترمذي بلفظ قريب من هذا اللفظ وفيه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب).

كان عدي نصرانياً عليه صليب من ذهب، وكان السبب في ذهابه أنه كان هارباً من النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت سرية من عند النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأسروا قومه، ومن ضمن هؤلاء عمته، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليها وهي أسيرة عنده فلم يعرفها، فأشار عليها علي أن تذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنها أخت حاتم الطائي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يرحمها، فقد كان أخوها له كرم في الناس مشهور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكرم، فهذه المرأة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه هلك الوافد وغاب الوالد إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم.

قال: ذاك الفار من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم.

واستحيت أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم مر بها النبي صلى الله عليه وسلم فغمزها علي أن تعيد الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم حررها عليه الصلاة والسلام بعدما كانت مع الإماء، وأمرها أن تنتظر حتى ينعم عليها ويحملها صلى الله عليه وسلم إذا أتى إليه مال، فأتاه مال فحملها صلى الله عليه وسلم وأعطاها طعاماً ورجعت إلى عدي)، ولما وصلت إليه قالت له: لو كان أبوك حياً ما فعل ما فعل، اذهب إليه صلى الله عليه وسلم.

وكان عدي هارباً إلى الشام من النبي صلى الله عليه وسلم وكره مقامه في الشام، وكان كارهاً لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان أشد كراهة لما وجده في الشام، فرجع وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، فقال: (وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم -هذه رواية الترمذي.

كأن عدياً أنكر هذا- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم -يعني: بصلاة ولا بصوم- ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه).

فإذا قال: الأحبار والرهبان هذا حلال يحلونه، أو هذا حرام يحرمونه.

قال: (وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) والحديث حسن.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى من معاني العبادة: أن الإنسان يتبع إنساناً يشرع له غير ما شرع الله سبحانه، الله يقول هذا حلال ويقول آخر وهذا حرام، فيتبعه الناس على ذلك، مع أنهم يعرفون أن الله حرم ذلك أو أحل ذلك، فيخالفون ربهم اتباعاً لقادتهم ولمن هم معهم، فهذا كفر بالله سبحانه، وهذه عبادة غير الله مع الله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١].

<<  <  ج: ص:  >  >>