للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نبذ الإسلام للحزبية والعصبية الجاهلية]

قال سبحانه وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة:٢٢] يعني: لا يمكن أن تجد مؤمناً حقق الإيمان، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢]، فلا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء، والأبناء والإخوان والعشائر، ومع ذلك أخبر أنهم يعادونهم لو كانوا ممن يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:٧١]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:١٠]، وقال: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:١٠٣]، هذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء بأي رابطة غير الرابطة الإسلامية -كالرابطة القومية مثلاً- لا يجوز، وهو ممنوع بإجماع المسلمين، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار -يعني: ضربه على مؤخرته- فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! -يعني: يستنصر بالأنصار على أخيه- وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة).

فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار! وقول هذا المهاجري: يا للمهاجرين! هو النداء بالقومية العصبية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) يقتضي وجوب ترك النداء بها، ويقتضي تحريم أن ينادي الإنسان بنداء الجاهلية، وبدعاوى الجاهلية؛ لأن قوله: (دعوها) أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب كما هو معلوم من الأصول كما قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]، ودل هذا على أن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم معصية محرمة، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله: (دعوها فإنها منتنة) حيث وصف هذا الأمر بالنتن، فالنداء بالقوميات أو العصبيات دعوة منتنة، فالدعاوى القومية أو العربية أو الفرعونية أو أي شيء من هذه الدعوات الجاهلية إنما هي دعاوى جاهلية منتنة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك هذه الألقاب التي أشرف الألقاب: المهاجرين والأنصار، وهي ممدوحة في القرآن أعظم المدح، وأخبر الله عز وجل أنه رضي عن المهاجرين والأنصار، وامتدحهم الله سبحانه وتعالى، وامتدحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته الشريفة في كثير من المواضع، فنهى عن هذه الألقاب التي هي من أشرف الألقاب إذا كان من باب الدعاوى الجاهلية أو في صورة عصبية.

وكذلك الأمر بالنسبة لمسميات الجماعات الإسلامية في أي بلاد، وفي أي مكان، فأي اسم -حتى ولو كان اسماً شريفاً- إذا تحول من معناه البريء المشروع إلى الحزبية والعصبية، فإنه من دعوى الجاهلية التي أمرنا باجتنابها، فلو أن السلفيين مثلاً تنادوا باسم السلفية، وانطبق عليهم هذا المعنى الجاهلي البغيض، فيقال لهم: دعوها فإنها منتنة.

وهكذا غيرهم من الجماعات الإسلامية إذا استخدموا هذه الألقاب في العصبية، أو خالفت الجماعة الشرع، أو قالت: من لم يكن معنا فهو علينا وينبغي أن نحاربه، فكل هذه دعاوى جاهلية ينبغي التنزه عنها، والبراءة منها ومن فعل أصحابها، لكن إذا استخدم اللفظ بمعنى صحيح، فلا حرج فيه، كما استخدم لقب المهاجرين والأنصار فيما بينهم، وهذا لا حرج فيه، لكن مهما شرف هذا اللفظ، حتى لو كان لقب المهاجرين والأنصار، لو صار سبباً لتعزيز الدعاوى الجاهلية التي تفصل عرى الإسلام، وتثير النزعات الجاهلية بين المسلمين؛ فيقال لأصحابها: دعوها فإنها منتنة.

فدل هذا الحديث -وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها فإنها منتنة) - على تحريم التنادي بالعصبيات القومية أو القبلية أو غيرها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالترك.

وأيضاً دل على تحريم التنادي بهذه العصبيات؛ لأنه وصفها بالشيء المنتن، والله سبحانه وتعالى يقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:٢٦] و (الْخَبِيثَاتُ) من الصفات والأفعال (لِلْخَبِيثِينَ).

ويقول سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:١٥٧]، وأيضاً وصفها بأنها من دعوى الجاهلية، وقال في بعض الروايات: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟!)، فدعوى الجاهلية محرمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يدعو بدعوى الجاهلية، وفي رواية أخرى: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية)، فهذا صريح في تحريم الدعاء بدعوى الجاهلية سواء الوثنية الفرعونية القومية وغير ذلك، وهذه الأدلة كلها تدل على التحريم الشديد لهذه النعرة العصبية.

ومما يدل على تحريم الحزبية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، عزاء الجاهلية هو: التنادي بنداء الجاهلية، يعني يرفع دعوى الجاهلية: يا قبيلة فلان، يا أصحاب فلان تعصبوا وتحزبوا لمن كان من قبلكم -أي: من بلادكم- ضد الشخص الآخر، وهذا حتى ولو كان ظالماً، فإنهم يظاهرونه، فهذا هو التعزي بدعوى الجاهلية، وهو التنادي بألقاب الجاهلية، وبتحزبات الجاهلية.

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه).

يعني: قولوا له: اعضض هن أبيك، والمقصود العورة، وهذا من السب الشديد، وإنما استحقه لأنه أتى فعلاً شديداً، وهو التعزي بعزاء الجاهلية، وإحياء النعرات الجاهلية، قال: (ولا تكنوا) يعني: لا تستخدموا الكناية لهذا الترهيب، ولكن أعضوه بهن أبيه باللفظ الصريح عقوبة له على تجروئه على إحياء دعوى الجاهلية، وهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له.

ومن هم رؤساء وزعماء هذه الدعوى الجاهلية؟ هم: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة ونظرائهم من رؤساء الكفرة؛ وذلك لأنهم تنادوا بهذه الدعوى القومية حينما {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة:١٠٤]، {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:١٧٠]، وأمثال ذلك من الأقوال التي تمسكوا فيها بما كان عليه الآباء وإن كانوا على ضلال مبين.

ورفع هذه الدعوات أياً كان اسمها هي عبارة عن نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، حتى لو نادى من ذلك بروابط عصبية قومية مدارها على أن هذا من العرب فناصره وهذا من العجم فنعاديه مثلاً، والعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، كما قال الرازي: بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الحكمة في جعله بني آدم شعوباً وقبائل هو التعارف فيما بينهم، وليست لأن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣] والمعنى: لتتعارفوا، حذفت إحدى التائين، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة.

ونحن لا ننكر أن المسلم قد ينتفع بهذه الرابطة العصبية، لكن هو لا ينادي بها، كما في قوله تعالى: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠]، وكما نصر النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب، وإنما كان دافعه إلى هذه المناصرة وجود الرابطة النسبية، وقال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:٩١].

إذاً: قد ينتفع الإنسان بهذه الأمور وهذه الرابطة، ولكن لا ينادي بها في الدعوات الجاهلية.

{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:٤٩].

<<  <  ج: ص:  >  >>