للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدلة الكتاب والسنة في مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ]

أول دليل على مشروعية الإنكار هو عموم الأدلة القرآنية والنبوية، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:١٠٤]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره).

المعروف: هو ما عرف في الشرع حكمه، والمنكر: هو ما استنكره الشرع واستقبحه، فإذا ثبت قطعاً بالنص أو الإجماع أن أمراً ما هو من الأمور المنكرة ومن المنكرات فهو داخل في هذا العموم ولا يضر مخالفة من خالف، يعني: لماذا يخرجه من المنكر وقد ثبت أن الرسول عده من المنكرات، والقرآن عده من المنكرات؟ إذاً: فهذا من المنكرات ولابد أن ينكر، حتى ولو خالف فيه فلان من الناس.

إنما قلنا بترك الإنكار في مسائل الخلاف السائغ الذي لا يخالف نصاً ولا إجماعاً لاتفاق الصحابة على عدم الإنكار فيها، كما نقل شيخ الإسلام الاتفاق على أنهم لا ينكر بعضهم على بعض في بعض مسائل الخلاف السائغ؛ لأنه لم يلزم أن يكون منكراً بالقطع واليقين في الشرع، إنما يغلب على ظنه أن هذا منكر، وسيغلب على ظن الآخر أنه معروف، وبالتالي اتفق الصحابة على إخراج الخلاف السائغ، وقد مدح الله داود وسليمان وأثنى على سليمان بالفهم، وقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩]، مع أن حكم داود كان خطأ وحكم سليمان هو الصواب.

فنقول كما قال ابن تيمية رحمه الله: اتفق الصحابة على عدم الإنكار فيها إلا على درجة التعريف، فهم متفقون على أنهم يعرفون أو يناظرون ويبينون، كما قال ابن تيمية رحمه الله: قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، فيبقى ما دل عليه النص أو الإجماع على الأصل وهو وجوب الإنكار.

إذاً: أي منكر في الشرع لا يخرج من استحقاق الإنكار إلا ما أجمع عليه من الأمور التي هي محل خلاف سائغ، وجميع أدلة ذم البدع وإنكارها تدل بمجموعها على الإنكار في الخلاف غير السائغ.

قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من غير علم فحكمه مردود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

وذكر حديث أبي سعيد وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب -جيد- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع)، والجمع هو: تمر رديء، قال: فأنا أشتري الصاع من هذا بصاعين من التمر الأقل جودة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا، ولكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان).

وفي رواية في الصحيح قال: (أوه عين الربا لا تفعل)، وفي رواية قال: (ردوه)، فأمر برد البيع رغم أن الصحابي عمل في ذلك باجتهاده، وقد كان يريد أن يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم بأحسن شيء.

وقال أيضاً الإمام البخاري في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد، وذكر فيه قصة قتل خالد للأسرى لما قالوا: صبأنا فأمر خالد بقتلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)، مرتين، وكلمة أبرأ إليك مما صنع خالد صريحة في الإنكار على من خالف السنة ولو كان متأولاً مجتهداً كـ خالد لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر الإنكار، بخلاف فعله في كثير من أفعال الصحابة مثل مسألة بني قريظة، بل الراجح في هذا -كما قلنا- أنه خلاف تنوع وأن كلاهما مصيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>