للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القضاء بحكم نافذ لا يمنع من احتمال وقوع الخطأ فيه]

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)، متفق عليه.

فالحكم هنا سيكون واحداً، والحاكم سيحكم بالظاهر، على سبيل المثال: إذا أتى اثنان من الشهود يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً عمداً -والظاهر أنهم عدول- فإن القاضي سيحكم بالظاهر وهو القصاص، فاقتص أهل القتيل، ثم جاء الشهود وقالوا: نحن كنا مخطئين, أو تبين أنهم كذبة, ففي باطن الأمر أن هذا الأمر ليس بحق، وإن كان القاضي أصاب لأنه حكم بالشهود، فهو أصاب في الحكم وأخطأ في الفتوى, وخطؤه سببه الشهود الذين أخطئوا في ذلك.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين أن الحكم في الظاهر وإن كان موافقاً لظاهر الشرع لا يغير الأمر في الباطن، فيقول: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقضي له بقطعة من النار)، فهو يبين أنه يحكم في الظاهر بأمر, ولعل باطن الأمر يكون خلاف الحق، وهو حكم به لوجود الشهود والأدلة، أو وجود اليمين، كمن قال: هذا الشيء ملكي, والثاني قال: بل هو لي, فقيل له: هات الشهود، فقال: لا يوجد عندي شهود، فقيل: احلف، فحلف، فالحاكم سيحكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيكون الرجل أنكر وحلف يميناً يستحق به ذلك الشيء، وهو بينه وبين الله كذاب, فالرسول عليه الصلاة والسلام يبين لنا أن هذا لن يحل له الحرام، فهذا دليل على أن هناك خطأ وصواباً في الفتوى كما في الحكم.

قال ابن قدامة: أما الإجماع: فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين, من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صواباً فمن الله, وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.

والكلالة: هو من مات ولا ولد له ولا والد, هذا تفسير أبو بكر لها، وهناك اختلاف: هل الكلالة من لا ولد له فقط، أو من لا ولد له ولا والد، وعامة العلماء يوافقون قول أبي بكر، وأما عمر رضي الله عنه فكان متردداً فيه، وظل يقضي بقضاء أبي بكر، وكان ينوي تغييره إلى أنه من لا ولد له فقط، بمعنى: أنه يمكن أن يرث الأخ مع الأولاد, مع أن الآية صريحة جداً ويوجد إجماع على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عمر عن الكلالة عدة مرات قال: (تكفيك آية الصيف) وهي آخر سورة النساء، فـ أبو بكر رضي الله عنه اجتهد في الكلالة ووافقه عامة العلماء على أن من ليس حوله أحد من عمود النسب لا من أصله ولا من فرعه, فإنه يرثه الكلالة وهم من حوله من الإخوة والأقارب الأخر: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:١٧٦]، أي: ولا والد، بدلالة أن الأخت لا ترث في وجود الأب ولا الإخوة لأم باتفاق العلماء، فهي فعلاً كافية في أن أقرب العصبة الأب, وبالتالي فلا يرث الإخوة في وجود الأب بالإجماع.

قال: وجه ذلك اجتهاداً منهم, ويقول: إن يكن صواباً وإن يكن خطأ.

وعن ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق مثل ذلك, وهي المرأة التي توفي عنها زوجها ولم يكتب لها صداقاً ولم يدخل بها، فقال ابن مسعود: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، لها صداق من جهة لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة، فقال معقل بن كنان: قضى رسول صلى الله عليه وسلم في امرأة منا بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به، فما فرح ابن مسعود رضي الله عنه بشيء مثل فرحه بهذا الحديث، فـ ابن مسعود قبل أن يقضي كان لا يعرف الحديث، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني، فكان عنده أن الاجتهاد يحتمل خطأ وصواباً.

وقال عمر رضي الله عنه في كتابه: اكتب هذا ما رآه عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، وقال في قضية قضاها: والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ؟ أي: لا يدري على وجه الجزم، لكنه اجتهد وبذل غاية وسعه، ولا يدري بعد ذلك على وجه الجزم أصاب هو أم أخطأ؟ وغلب على ظنه أن هذا هو الصواب.

ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه.

وقال علي لـ عمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ما في بطنها، ذلك أن عمر رضي الله عنه أرسل لها في أمر، فأرعبت المرأة فأجهضت ما في بطنها، ويحتمل أنها أحدثت شيئاً فبعث إليها يستكشف الأمر فخافت، فاستشار عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان فقال عبد الرحمن: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب, وأنت بعثت لها لترى هل هي تستحق التعزير أم لا، فكونها خافت لا شيء عليك، فقال علي: إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطأ, وإن يكونا ما اجتهدا فقد غشاك, عليك الدية، فرجع عمر إلى رأيه، وألزم نفسه الدية لأنه أخاف هذه المرأة لما بعث لها بهذه الطريقة التي فيها نوع من التخويف، فـ عمر وعثمان وعبد الرحمن وعلي بن أبي طالب كلهم يقولون نفس الكلام، فلا يطلب إجماع أكثر من ذلك.

وقال علي في إحراق الخوارج -كذا قال ابن قدامة: ولعله يعني الرافضة الغلاة: لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أريش بعدها أو أستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر والمشهور الصحيح عنه أنه حرق الرافضة الذين قالوا أنه هو الله، فقال: ويحكم أنا رجل مثلكم, فأصروا على ذلك, فتوعدهم أن يحرقهم بالنار، فأصروا على ذلك, فقالوا: الآن علمنا أنك ربنا؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، وهذا طبعاً كلام اليهودي عبد الله بن سبأ، وطلبه علي بن أبي طالب فما أدركه، لكنه أدرك أتباعه الذين هم أمثال العلويين حالياً الذين يقولون: علي هو الله, فـ علي أدركهم في زمنه وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس وكان قد فارق علياً في ذلك الوقت وذهب إلى مكة، فقال: لو كنت مكانك لما أمرت بحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، ولأمرت بقتلهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فقال علي رضي الله عنه لما بلغه قول ابن عباس: ويح ابن عباس، لو أخبرني قبلها وقال: لقد عثرت عثرة لا تنجبر.

أي: عندما حرقتهم بالنار.

سوف أريش بعدها أو أستمر.

أي: سوف أتوقف بعدها أو أستمر.

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر.

يعني: لن أعمل أي شيء حتى آخذ الآراء وأستشير, وهو أصلاً قال لـ ابن عباس: لقد عثرت على خطأ من الأخطاء, لكن أنا لما رأيت أمراً فظيعاً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً -وهو غلامه- لكنني من شدة الأمر ذهلت عن عدم جواز التحريق بالنار.

وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد؟! يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أبا الأب أباً، وهذا في مسألة توريث الجد مع الإخوة، وابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يرى رأي أبي بكر: أن الإخوة لا يرثون مع الجد؛ لأنه أب, والأب باتفاق لا يرث معه الإخوة شيئاً، أما عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت فرأيا توريث الإخوة مع الجد، مع أنهم متفقون على أنه لو كان هناك ابن ابن مع الإخوة فإن الإخوة لا يرثون شيئاً، والحفيد يحوز المال كله، فالقياس يقتضي أن أبا الأب يلحق بالأب مثلما أن ابن الابن يلحق بالابن، فـ ابن عباس يقول: ألا يتقي الله زيد؟! فهذا دليل على الإنكار على من خالف القياس الجلي، مع أن هذه المسألة فيها خلاف سائغ, ولكن ابن عباس يرى أن المسألة فيها قياس جلي جداً، ووافقه أبو حنيفة رحمه الله على أن الجد هو الذي يحوز الميراث ولا يرث الإخوة شيئاً، والجمهور يقول بقول زيد وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن الجد يرث مع الإخوة.

فهذه الآثار فيها الإنكار على من خالف الدليل الواضح، وسيستدل بها مرة ثانية على إثبات وجود الخلاف غير السائغ عند من وضح له الدليل وأصبح لديه قياس جلي ينكر على من خالفه ويراه قد أخطأ.

وقال ابن عباس: من شاء باهلته في العول، وكان لا يرى العول في المواريث، ومحله حين تزيد الأنصبة المفروضة على الواحد الصحيح، فيكون البسط أكثر من المقام؛ فجمهور الصحابة منهم زيد وغيره يرون أن يجعل البسط مقاماً، فيأخذ كل واحد نصيباً أقل من نصيبه بالنسبة لمجموع الأنصبة.

أما ابن عباس فكان يرى أنه من كان يرث في كل حال يبدأ به، ولا يمتنع ميراثه كالابن والابنة والزوج والزوجة، وهذا قول مخالف لعامة العلماء، وكل العلماء هجروه، فـ ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر -أي: أن يجعل لعنة الله على الكاذبين- أن هذا ليس من الشرع، مع أن الراجح والله أعلم أنه أخطأ في ذلك، والحمد لله لم تحصل مباهلة.

وسفيان أيضاً كان مستعداً للمباهلة في مسألة رفع اليدين في التكبير في الصلاة عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه، فالذي عنده أن سبعة عشر صحابياً يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهو مستعد لمباهلة من يقول: لا ترفع اليدين.

وقالت عائشة: لمولاة زيد بن أرقم: إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى ا

<<  <  ج: ص:  >  >>