للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مقدمة المؤلف في الكلام عن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان]

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد: فبقراءة شرح الوصايا المهمة من وصايا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله.

فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن.

ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان.

وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء.

ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:٦٢ - ٦٤] وقال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:١٩٦]].

فقد ذكر الله عز وجل صفة أوليائه أنهم المؤمنون المتقون، وبين عز وجل عاقبة أمرهم أنهم لا خوف عليهم مما هم يقبلون عليه ويقدمون عليه، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم أو حصل لهم.

وبين عز وجل أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، فمن عاجل بشرى المؤمن ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلوب وفي ألسنة الخلق من محبة أوليائه والثناء عليهم.

ومن البشرى في الدنيا كذلك الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له.

وأما في الآخرة فما تبشرهم به الملائكة عند احتضارهم وعند قيامهم من قبورهم، وعندما تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.

وكذلك من البشرى في الآخرة ما يبشر به العمل الصالح صاحبه حين يأتيه في صورة رجل طيب، حسن الوجه طيب الريح يقول: (أبشر بما يسرك هذا يومك هذا الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح).

قال المؤلف رحمه الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥٧].

إذاً لله أولياء كما في الآية: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)) والله عز وجل وليهم وهم أولياؤه، فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد.

((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)) ورأس الطواغيت الشيطان، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله وهو راض، وهؤلاء بعضهم أولياء بعض، وهم يتعاونون على الكفر والفسوق والعصيان.

((يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)) أي: يتركون الإيمان والعلم والعدل والحق الذي أخبر الله به وأمر به عز وجل إلى ظلمات الظلم والشرك والشك والنفاق وغير ذلك مما يحصل لمن يعبد غير الله.

((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥١ - ٥٦]].

فالله عز وجل له أولياء من المؤمنين وهو وليهم، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:٥٥].

ولا شك أن ذكر هذه الولاية عقب إيجاب البراءة من الكفار، من اليهود والنصارى، وعدم اتخاذهم أولياء دليل واضح على أنه لا تحصل الولاية لله إلا ببغض أعداء الله.

أما النفاق فتدل الآية على أنه يسبب موالاة الكفار، قال تعالى: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: مرض النفاق والشبهات والشهوات ((يُسَارِعُونَ فِيهِم)) أي: يسارعون في موالاة اليهود والنصارى والكفار بزعم أنهم يخشون وقوع الهزيمة على المسلمين، فيضمنون أنهم قد أعدوا لهذا اليوم عدته بأن والوا أعداء الله، فيتخذون عندهم يداً يحمون بها أنفسهم إذا غلبوا.

قال عز وجل: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)) و (عسى) من الله واجبة، فمن تولى الله عز وجل، وتولى دين رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، وتولى عباد الله المؤمنين، فإن الله يفتح عليه، ويأتي الكفار أمر من عنده عز وجل فيجعل باطلهم ومكرهم وكيدهم هباءً منثوراً، وعند ذلك يندم المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من موالاة الكفار.

وبين عز وجل أن المؤمنين يتعجبون من هؤلاء المنافقين، كيف يجمعون بين النقيضين؟ بين كونهم يقسمون أقوى الأيمان -وقد بذلوا الجهد في المبالغة في القسم- أنهم مع المؤمنين، وفي نفس الوقت هم يتخذون الكفار أولياء، فكيف يجتمع هذان النقيضان؟ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً، وهو في نفس الوقت يتخذ الذين كفروا أولياء.

وقد بين عز وجل أن موالاة الكفار تستوجب - والعياذ بالله - حبوط العمل، وتجلب الخسران، وبين أنها تجر إلى الردة فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) وهذه صفات أولياء الله أنهم يحبون الله والله يحبهم، وكذلك من صفاتهم: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) وأضافوا إلى ذلك الجهاد في سبيل الله، وأنهمولن يخافون لومة اللائمين الذين يلومون من يجاهد في سبيل الله، ومن يعمل لإعلاء كلمة الله.

((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) فمن تفضل الله عز وجل عليه بحبه، وبالذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيله، فهذا قد آتاه الله عز وجل من فضله، والله واسع عليم.

ثم حصر عز وجل الموالاة أنها تكون لمن لديهم صفات معينة، وهي: أنهم المؤمنون، والمقيمون للصلاة، والمؤتون للزكاة، والذين يركعون ويخضعون لله عز وجل.

وبين الله انتصار هذا الحزب الذي يشترط لعضويته: أن يكون الإنسان مؤمناً مصلياً مزكياً مطيعاً لله عز وجل.

والغرض المقصود من هذه الآية في هذا الباب هو قوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) فلله عز وجل أولياء.

قال المؤلف رحمه الله: [قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:٤٤]].

أي: هو يتولى أمور عباده عموماً، وأمور عباده المؤمنين بالحفظ والعناية خصوصاً.

قال المؤلف رحمه الله: [قال تعالى: وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:٩٨ - ١٠٠]].

إذاً: هناك من يتولى الشيطان، والشيطان وليه.

قال المؤلف رحمه الله: [وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:٧٦]].

فسماهم أولياء الشيطان وأمر بقتالهم؛ لأنهم يصدون عن سبيل الله ويشركون به، ويظهرون الفساد في الأرض.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقال تعال

<<  <  ج: ص:  >  >>