للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حديث احتجاج آدم وموسى ومذاهب الناس فيه]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ -وفي رواية: خيبتنا وأخرجتنا ونفسك من الجنة- فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: بأربعين سنة، قال: فلم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى) -أي: غلبه بالحجة- وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر) وهؤلاء هم المعتزلة، فقد كذبوا بالحديث، وقالوا: إن هذا الحديث باطل، مع أنه في الصحيحين ومتفق على صحته.

ثم يقول: (وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة) أي: إذا كان المعتزلة أبطلوا حديثاً واحداً ونبدعهم ونضللهم بسبب أنهم أبطلوا حديثاً واحداً، فالجبرية سيبطلون الشريعة كلها، سيبطلون الصلاة والصوم والزكاة، وحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر، ولذلك هم شر من المعتزلة.

ثم يقول: (وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه) يقول بعض الصوفية: إن القدر هذا حجة للذي وصل إلى درجة اليقين، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] واليقين عندهم ليس هو الموت كما هو تفسير الآية، فعندهم الذي يصل إلى الحقيقة يصبح معفواً عنه، وتسقط عليه الفرائض! نقول: إن هذا من الجهل العظيم ومن الكفر في الحقيقة؛ لأنه سيجعل هناك طائفة من الناس لا تلتزم بالشريعة.

ثم يقول: (أو الذين لا يرون أن لهم فعلاً.

ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه) وهذه حجة ضعيفة.

ثم يقول: (أو لأنه كان قد تاب) أي: أن سيدنا آدم احتج بالقدر؛ لأنه قد تاب من الذنب، وهو لم يختر المصيبة، والذنب بعد التوبة بمنزلة المصيبة.

إذاً: لا يصح الاحتجاج بالقدر على ذنب إلا بعد التوبة، وإذا تاب يكون قد عمل الذي عليه، وهو أنه فر -فعلاً- من القدر المكروه إلى القدر المحبوب، فيكون مؤمناً بالقدر؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك.

ثم يقول: (أو لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في أخرى) أي: أن الذنب كان في شريعة آدم، واللوم في شريعة موسى.

ثم يقول: (أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة) أي: أن الاحتجاج بالقدر إنما يكون في الآخرة، وأما في الدنيا فلا.

ثم يقول: (وكل هذا باطل) أي: أن الحديث يؤول على غير وجهه.

ثم يقول: (ولكن وجه الحديث: أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه) وهذا كلام فيه نظر؛ لأن سيدنا آدم قال لسيدنا موسى: فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: (وعصى آدم ربه فغوى؟) قال: بأربعين سنة، قال: فلم تلومني على أمر قدره الله عليّ) إذاً: المتأمل للرواية يتيقن أن سيدنا موسى لام آدم على المعصية، وسيدنا آدم احتج على أن المعصية مكتوبة عليه قبل أن يخلق بأربعين سنة، فهو لامه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، وسيدنا موسى لا يمكن أن يلومه على المصيبة فقط، وإلا لا يوجد أي شخص عاقل يلوم أحداً على مصيبة ليس له فيها دخل، وهل يمكن أن يقول شخص لآخر: لماذا ولدت أسود؟! ليس هناك عاقل يقول هذا أصلاً.

لكن سيدنا موسى أخطأ في ذلك وغلبه آدم بالحجة، ولا يمكن أن يكون موسى عليه السلام يلومه على مصيبة مجردة، فقول شيخ الإسلام: إن موسى لم يلمه إلا لأجل المصيبة، هذا قول ضعيف جداً، فالصواب أنه: هذا لامه لأجل الذنب الذي ترتب عليه المصيبة، أي: أنه تسبب في إخراج نفسه من الجنة، والله هو الذي كتب عليه الإخراج، ولذلك لم يقل له: فبكم وجدت مكتوباً علي أني أخرج من الجنة، أو أني أكون موجوداً في الأرض، بل قال: (فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟) وهذا واضح جداً.

ثم يقول: (لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فان موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]).

<<  <  ج: ص:  >  >>