للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التحذير من عبادة الأموال]

ومن الأحاديث التي يرويها أبو هريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض).

قوله: (تعس) إما إخبار وإما إنشاء.

أما الإخبار فالمعنى: أنه يخبر أن هذا هالك سيعيش في تعاسة وسيهلك وسيضيع.

وأما الإنشاء فالمعنى: أنه يدعو على من نسي عبوديته لله عز وجل وصار عابداً للمال، وسعى في تحصيل هذا المال من أي طريق كان، بالتعاسة في دنياه وفي أخراه.

وليس معنى قوله: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، أن من عبد هذه الأشياء سيصلي لها ويسجد لها ويعمل لها من الطاعات، ولكن المعنى: أن الذي يعبد شيئاً فإنه يستولي عليه هذا المعبود حتى يكون العابد وراءه تابعاً له، فإذا عبد الإنسان ربه سبحانه اتبع هداه سبحانه وتعالى، فنظر في الحلال فأقبل عليه ونظر في الحرام فامتنع عنه، وإذا عبد الدنيا لهث وراءها، يريد أخذها غير ملتفت إلى غيرها.

وسمي عابداً لأنه قد ذلل نفسه وطوع إرادته لهذا الشيء الذي يهواه، فهو عابد للدينار، بتتبع من يعطيه الدينار ويجري وراءه، بل قد يعمل المستحيل لكي يحصل على هذا الدينار، ولا فرق إن أخذه من رشوة أو من سحت أو من سرقة؛ لأنه عابد للدينار، يريد أن يأخذه فحسب.

وقوله: (تعس عبد الدرهم)، وهذا كسابقه في الحقارة والخسة، حيث نظروا لأعراض الدنيا ثم أخذوا يلهثون وراءها ولو أذل الواحد منهم نفسه للخلق.

وقوله: (تعس عبد القطيفة والخميصة)، أي: أنه يأخذ أي شيء مهما كان خسيساً ولو خرقة ملبوسة؛ لأن عينه يملؤها هذا الشيء ويسيره من أعطاه فيما يريد، وهو يجتهد أن يفعل له الذي يريده ولو عصى الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو بذلك قد طوع لمن أعطاه فصار عابداً له، إذ إن أصل العبادة من التعبيد.

والتعبيد: التذليل والتيسير للشيء، ومنه الأرض المعبدة، أي: الأرض المذللة، الممهدة، السهلة، يقال: هذه أرض معبدة أي: سهلة لا يصعب المشي عليها، ويقال: عبد الطريق: أي ذلّله وأزال العقبات التي عليها من أجل أن تصير سهلة ميسرة للمشي، ولذا فالمعنى أنه صار عابداً لهذه الدنيا حيث طوع نفسه لها، فليس عنده أي اعتراض على أي شيء ما دام سيأخذ الدنيا، فهو يفعل من أجلها أي شيء، ومن وصل به الحال إلى ذلك فإنه تعس في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه باع دينه بدنياه، وبدل الآخرة بهذه الدنيا، وهو مع ذلك لن يحصل من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له، وهذا الإنسان يصدق عليه أنه اشترى لا شيء بأعظم الأشياء وهي الآخرة، فأي عقل في إنسان يبيع الآخرة ليشتري الدنيا، وهو يعلم أن الدنيا لن تدوم له، وأي عقل في إنسان يبدل الشيء العظيم الجليل بالشيء الحقير الذي لا قيمة له، يقول الشاعر في مثل هذا: أخذت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمرعمراً أنزرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا والمعنى: أنك بدلت جمة وهو: الشعر الحسن الطويل الجميل بصلعاء، وصرت أقرع أصلع، ونزعت ثناياك أي: أسنانك الجميلة البيضاء بالدرادير الموجودة، كما اشترى المسلم إذ تنصرا، أي: كما صنع الذي ارتد على عقبه، فقد اشترى الدنيا وباع من أجلها الآخرة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة)، الخميصة: ثوب من الأثواب.

قال: (إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، إن أعطى الناس له الدنيا رضي وفرح بهذه الدنيا وإذا لم يعطه الناس سخط.