للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمر بالأكل مما يلي الآكل]

عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه.

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك.

قال: لا أستطيع.

قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر.

فما رفعها إلى فيه) رواه مسلم.

باب النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته.

عن جبلة بن سحيم قال: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير فرزقنا تمراً، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل، فيقول: لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل أخاه) متفق عليه.

أورد الإمام النووي - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في كتاب آداب الطعام، في باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله حديث عمرو بن أبي سلمة، والمعنى واضح، وهو أن المسلم إذا أكل من طعام فإنه يأكل من الطعام الذي يليه، دون أن تطيش يده في الصحفة فيأكل مرة مما يليه ومرة من آخر الصحفة! فيأكل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعلمهم.

ومما ورد من تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه حديث عمر بن أبي سلمة قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وذلك لأنه كان ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ أمه أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، وكان مع أبيه ومع أمه في الحبشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

ثم قدم مع أبيه وأمه إلى المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه أبو سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من أم سلمة رضي الله عنها أن تسأل الله عز وجل أن يخلفها خيراً من أبي سلمة، وعلمها أن تقول: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها).

ولم تكن تدري ما هو الخير من أبي سلمة، فقالت: ومن خير من أبي سلمة؟! ولم يخطر على بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، وإنما نظرت في الصحابة لترى من هو خير من أبي سلمة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد انقضاء عدتها! وتصير أم سلمة أماً للمؤمنين وزوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويصير ابنها هذا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يتيم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم يرعاه ويحوطه وينظر في أمره، وهو في بيته عليه الصلاة والسلام، فكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان وهو صبي صغير يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد تعود آداب الطعام بعد، فكانت يده - كما يقول -: تطيش في الصحفة، يعني: إذا أكل يضع يده في أي مكان، ويغمسها في الصحن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم.

فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا غلام! سم الله تعالى)، يعني: قل: (باسم الله) حين تأكل، (وكل بيمينك، وكل مما يليك).

وهذه آداب من آداب الطعام عظيمة جداً، فعلى الإنسان أن يعود أولاده على آداب الطعام وهم صغار لتبقى تلك الآداب عادة للصبي سواءٌ أكان وحده، أم مع أقربائه، أم مع الغرباء عنه، فلا ينتقد أمام الناس حين يأكل.

وكم من إنسان يكون كبيراً وإذا جلس ليأكل يقوم الناظرون فينظرون إليه بنظرة انتقاد لأنه لا يعرف كيف يأكل، فيده تطيش في الطعام، ويأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويقذر المائدة؛ إذ ليس عنده من آداب الطعام شيء.

وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يفعلوا ذلك، فقال: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا تأديب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الكبار والصغار ويؤدب الجميع عليه الصلاة والسلام.

ثم إن عمر بن أبي سلمة صار بعد ذلك رجلاً كبيراً، وشهد مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس، واستعمله على البحرين، فاستحق أن يتولى أمر الناس ويكون أميراً على بلاد فارس وعلى بلاد البحرين، رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وعاش زمناً طويلاً، حيث مات في حدود سنة ثلاث وثمانين رضي الله تبارك وتعالى عنه، أي أنه عمر أكثر من خمسة وثمانين عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.

والغرض هنا: بيان تعليم الأطفال كيف يأكلون، حتى لا يمد الصبي يده إلى طعام ليس له.

ولعلنا نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة من تمر الصدقة مد الحسن أو الحسين يده إليها فأخذها ووضعها في فمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرفه الله عز وجل عن ذلك، وكذلك آل بيته عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة؛ إذ تحرم عليهم الصدقة، فلا يجوز لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا من الصدقة.

بل شرف بذلك موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العبيد الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فانتسبوا إليه بالولاء.

فلما أخذ الحسن أو الحسين تمرة من الصدقة ووضعها في فمه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجها صلى الله عليه وسلم من فمه، وقال: (كخ كخ.

أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟).

والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أرحم خلق الله بالخلق عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يعود هذا الصغير على أن لا يأكل هذه التمرة ولو كان قد وضعها في فمه.

ولو أن أحدنا رأى ابنه يفعل ذلك، فهل - يا ترى - سيفعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه كحال الكثير سيقول: ليس في ذلك شيء، فهذا ولد صغير لا يعرف، وسأدفع ثمنها؟! ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرج التمرة من فمه، لأنه لا يحل له أن يأكلها، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: (كخ) لطفل عمره سبع سنين، بل قال ذلك لولد عمره سنتان أو نحوهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويردفه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟)، وقد يفهم الصبي وقد لا يفهم هذه الكلمة.

ولكن ليفهمها الكبار الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فيتعلمون كيف يربون أبناءهم على ذلك، وهو أنه ما يحرم عليك لا يجوز لك أن تمد يدك إليه.

وقد نجد اليوم العكس، فالأب يأخذ ابنه ويذهب به إلى السوق، ويمد الولد يده إلى تمرة فيأكلها وأبوه ساكت كأنه لا يعنيه هذا الأمر، ويمد يده إلى خيار أو نحوها ويأكل، والأب والأم لا يتكلمان بشيء.

بل قد يقول: ليس في ذلك شيء! وهذا ليس من الأدب، وإنما هو أكل حرام بغير إذن من صاحب الطعام، فليس لك أن تمد يدك إلى طعام إنسان إلا بعد أن يأذن لك في ذلك، فإذا قال لك: ذوق فلتذق وحدك دون أن تدع أحداً معك يمد يده إلى هذا الطعام.