للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن القران في الأكل مع الجماعة]

في الحديث الآخر النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل المرء في جماعة إلا بإذن رفقته، فهنا تعليم الصغار والكبار آداب الطعام، فإذا كان الطعام فيه تمر أو نحوه مما يؤكل واحدة واحدة، وكان معك أحد يأكل فالأدب أن تأكل واحدة واحدة، كما يأكل هو، إلا أن يكون الأمر الجاري هو الاتفاق على تأكلا اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً، أو استأذن أحدكما صاحبه، لكن لا تعود نفسك على هذا الشيء.

فهنا يقول جبلة بن سحيم: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير).

فقوله: (عام سنة) يعني: عام جدب وقحط وشدة، قال: (فرزقنا تمراً) يعني: قسم علينا تمراً، قال: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل.

وذلك في عام مجاعة لم يصيبوا فيه إلا التمر فكانوا يأكلون التمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران) يعني: لا تأكلوا اثنتين اثنتين، ولا يمد أحدكم يده ليأخذ تمرتين تمرتين، بل ليأخذ كل منكم واحدة واحدة من الطعام الذي أمامكم.

وذلك ليعلم المرء أنه كما أن له حقاً في الطعام فللذي يأكل معه - أيضاً - حق في الطعام، فإذا كان سيأكل أكثر من واحدة فإنه سيقول: اسمحوا لي بأن آكل اثنتين اثنتين.

وهذا صعب على نفس الإنسان، وحينئذ سيستأذن مرة وسيستحي بعد ذلك فلن يستأذن، وحينئذ سيأكل واحدة واحدة.

فهذا أدب يؤدبنا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تأكل طعام غيرك، وإلا فإن الجميع سيقومون وفي نفوس بعضهم شيء على الآخرين، فتسمع بعضهم يقول: فلان هذا لا أحب أن آكل معه؛ لأنه يقعد ليأكل معنا فيمد يده ليأكل الطعام كله، كما جاء الأعرابي وأكل الطعام الذي أمام النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكفي ستة أفراد، فأكله هو كله، ولم ير أن غيره محتاج إلى أن يأكل، بل نظر إلى نفسه فقط! فهذا الذي يكون بهذا المنظر يكون بغيضاً عند الناس، فالناس لا تحبه ولا تحب أن تأكل معه، وفي النهاية سيحصل أن الطعام سيُخفى عن هذا الإنسان، ومما يذكر في ذلك أنه في الاعتكاف كان الطعام يوضع في الدور الأرضي من المسجد، وكان الأكل مباحاً لمن شاء، وكان الناس يراعي بعضهم بعضاً، ثم إذا بناس من الشارع يدخلون ليأكلوا فكان أحدهم يمد يده أول الأمر إلى اللحم فيأكله ويترك المعتكف في المسجد ليل نهار من غير أن يصيب حاجته، فكان الحاصل في النهاية أن منع هذا الأمر، وصار الأكل في الدور الثاني أو الدور الثالث بعيداً عن الناس، وصار ممنوعاً أن يأكل أحد إلا المعتكفين، فانظر إلى هذا الجاني كيف مُنع من الطعام ومنع غيره؛ لأنه أكل شيئاً ليس له، أكل طعام غيره ولم يعرف أن هذا معتكف وأن هذا طعامه، وهذا الداخل ممن يأكل ويخرج ويذهب إلى بيته ليأكل، فلما مد يده إلى أشرف الطعام الموجود عوقب بعد ذلك بأن يحرم منه.

وكذلك كل إنسان طماع، لو أنه اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى وراعى غيره في طعامه وعرف آداب الطعام؛ فإن الناس سيحبون أن يأكلوا معه؛ لأنه طيب؛ ولأن قعدته فيها بركة للناس.

وأما الإنسان الطماع فإنه لا أحد يحب أن يأكل معه، ولسان حال الآكل معه: سأترك لك طعامي، لكن ليس في كل يوم أترك لك الطعام؛ لأني محتاج إلى أن آكل لأقوم للصلاة وللعمل، فلن تأكل طعامي كل يوم.

فهنا تعلمنا الشريعة آداب الطعام.

والتسمية عظيمة جداً؛ فإنها تمنع الشيطان من أن يجلس معك على الطعام، وتمنعك شر نفسك، فالإنسان إذا كان في نفسه شيء من الشر فنوى أن يأكل الطعام طمعاً فإنه يذرك الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحيي ويتأدب بآداب الطعام حين يأكل.