للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نباهته صلى الله وسلم في قرع أبواب القلوب وتقريبها نحو خالقها جل في علاه]

ثم ذكر حديثاً يرويه أبو داود والترمذي عن أبي جري واسمه جابر بن سليم رضي الله عنه قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) وكأنه كان في أول إسلامه، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، فوجد أنه صلى الله عليه وسلم الناس يسألونه ويعملون بما يقول عليه الصلاة والسلام، (فسأل الناس: من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليك السلام يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فلما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى) وكانت عادة أهل الجاهلية حينما يذكرون فلاناً الذي مات يقولون: عليك السلام يا فلان، ومنه قول من قال: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فقال له ذلك لأنه قد مات.

ويقول الشماخ: عليك سلام من أديم وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فيقول له: عليك سلام الله، لكن الحي لا يقال له: عليك سلام الله، إنما يقال للحي: السلام عليك.

بل علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا جئنا عند القبور أن نسلم على الأموات بذلك: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).

فإذا سلمنا على الأحياء أو أصحاب القبور فإننا نقول: السلام عليكم.

ثم يقول هنا: (قلت: أنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك).

وهذا الكلام العظيم جميل من النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل عربي وقد جاء يأخذ جمله وإبله وارداً إلى عين الماء ليشرب الجمل من البئر ثم يصدر، كما يصدر الصحابة عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرويهم بكلامه العظيم وبأحكامه العظيمة عليه الصلاة والسلام فيصدرون عنه وقد شبعوا مما قال صلى الله عليه وسلم منفذين ما يقوله عليه الصلاة والسلام.

فعظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه فقال: (أنت رسول الله؟!) معجباً ومتعجباً ومنبهراً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبطاعة أصحابه له، فإذا به يتواضع عليه الصلاة والسلام ويقول: (أنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذي).

ولم يقل هنا: أنا صفتي كذا وكذا، فطالما أنت منبهر ومندهش بذلك فاذكر نعم الله سبحانه عليك.

قال: (أنا رسول الله سبحانه تبارك وتعالى الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك).

قال: (وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك) فالله الذي ينبت لك الأرض حين يصيبك عام سنة، يعني: عام جدب، أو عام ليس فيه ماء، فلا سحاب نازل ولا مطر موجود ولا عيون ماء تروي بها الأرض، فإذا به يدعو الله عز وجل، فيفرج الله هذا الكرب عن العباد وينبت لهم سبحانه.

قال: (وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك) وانظروا إلى جمال كلامه صلوات الله وسلامه عليه! فهذا الرجل يتكلم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (أنت رسول الله؟) عليه الصلاة والسلام، فإذا به يتواضع مبيناً أن الذي يفعل هذه الخيرات كلها، ويسديها إليك هو الرب القادر الذي يفعل ويفعل سبحانه تبارك وتعالى.

قال: (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال الرجل: قلت: اعهد إلي)؛ لأنه أعجب بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

فبدأ الرجل يدخل في هذا الدين ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني وقل لي مثلما قلت لهؤلاء فصدروا عن رأيك وقولك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبن أحداً) أي: إياك أن تسب أو تشتم أحداً، فإذا بالرجل يطيع رضي الله عنه، ويقول: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة).

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحقرن من المعروف شيئاً) واحتقار المعروف يمنع الإنسان من فعله، فإذا وجد مسماراً على الأرض لنجار مثلاً لم يعطه بحجة أن عنده كثيراً من المسامير فلا يحتاج إليه، فقد تستهين بشيء يكون فيه نفع لصاحبه الذي تعطيه إياه، وكذلك إذا وجد ثمرة تردد في إعطائها للمسكين وتعلل بقلتها مدعياً بأنه سيحرجه، ولو أعطاه لكان خيراً له حتى لو كان قليلاً فستجد له طالباً يطلبه، فافعل المعروف وأعن عليه ولا تحتقر منه شيئاً، قال: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: بين الركبة والكعبين.

قال: (فإن أبيت)؛ لأن الإنسان يمكنه أن يقول: أريد لإزاري أن يكون طويلاً.

قال: (فإن أبيت فإلى الكعبين) إذاً فآخر حدك عند الكعبين: وهي العظمتان اللتان في آخر الساقين.

قال: (وإياك وإسبال الإزار) أي: أحذرك أن تطول الإزار عن الكعبين؛ ثم قال: (فإنها من المخيلة) إذاً فكون الإنسان يفعل ذلك ويطلبه فهذا هو الخيلاء، الذي منع منه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة).

ثم نصحه صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه) وهذا أدب عظيم من آداب الإسلام، فإنك مأمور بالستر على عيوب الخلق وعيبوك.

قال: (لو أن إنساناً عيرك) قال هنا: (بما يعلم فيك)، وقال في حديث آخر: (بما لا يعلم فيك) يعني: قد يعيرك بشيء موجود فيك أو بشيء ليس عندك لكنه يفتري عليك، فأنت إذا كنت تعرف فيه عيوباً فلا ترد عليه؛ ليكون وباله عليه.

قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه).

إذاً فاتركه يأخذ جزاءه يوم القيامة، ولا تعتد على سب الناس أو فضحهم، بل عليك أن تكون كاتماً لأسرار الناس ساتراً على عيوبهم، حتى وإن أرادوا فضيحتك، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨]، فالله يدافع عنك ويجعل الناس يحتقرون هذا الذي يتكلم عنك ويريد أن يفضحك بشيء فيك أو ليس فيك ويتكفل بالستر عليك، فلا تأبه لهذا الإنسان ولا تجاوبه بمثل ما قال.

والمقصد من الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة) فهو يعلم المسلمين التواضع وعدم تقليد أحد من الخلق، فإذا أردت أن تقتدي فإمامك وقدوتك والأسوة الحسنة لك هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:٢١]، وليكن حياؤك من الله عز وجل أعظم في قلبك من حيائك من الناس.