للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[باب الإسراع بالجنازة]

الإسراع بالجنازة سنة، والإسراع أنواع: إسراع من لحظة ما يتوفى الميت، فهو إسراع في التجهيز، وإسراع في استخرج تصريح بدفنه، وإسراع في حفر القبر، وإسراع في إحضار المغسل، وإسراع في إحضار الكفن، فلا يطول هذا الشيء وإنما بقدر ما يجتمع الناس الذين يصلون عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا في الحديث أنه: (إذا صلى عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله) أي: أربعون من الموحدين، وفي الحديث الآخر: (مائة يوحدون الله سبحانه إلا شفعوا فيه) فإذاً نحرص على أن يصلي على هذا المتوفى على الأقل أربعون شخصاً يصلون عليه، أو مائة، والناس الذين يحضرون في الجنائز كثيرون، فإذاً لا داعي للإسراع الذي يجعل الكثيرين لا يشهدون الجنازة، وأيضاً لا داعي للإبطاء الممل الذي يجعل الناس يقولون: لن نحضر جنازة مرة ثانية؛ لأنهم يؤخرونا ويعطلونا، فالأمر على الوسط، فالإسراع يكون بالتجهيز، وتبلغ من سيحضر الجنازة، بحيث إنه يصلى على الميت إذا توفي، ويدفن في اليوم الذي توفى فيه.

إلا أن يتعذر ذلك، كما في عادة بعض البلدان أن المقبرة تقفل بعد العشاء، فمن الصعب أن نذهب بعد العشاء ونفتح له قبراً، ولكن في مكة والمدينة المقبرة مفتوحة في أي وقت، ففي أي وقت يدفن الإنسان المتوفى، فعلى ذلك إذا كانت عادة أهل البلاد الإسراع لمثل ذلك، فيدفن ولا يؤخر إلى الصباح حتى يحضر الناس.

وينظر أيضاً هل يتغير الميت أو لا يتغير، وأي إنسان يتوفى إذا مر عليه وقت فإنه يتغير، فالإنسان بداخله معدة وأمعاء فتتحلل، ويخرج منه رائحة كريهة، وليس هذا دليل على أن ذلك الرجل سيء، والميت يتحلل في قبره، وتأكله الدود، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا ما يكون من أمر الشهداء في من شاء الله سبحانه وتعالى.

إذاً: إذا كان الميت رائحته قد تغيرت فلا أحد يسيء فيه الظن، وإذا كان مستوراً داخل صندوق، وقد تغير الميت، فاتركه على وضعه، وصل عليه وهو على هذه الحالة، وقبل إنزاله القبر افتح الصندوق وأنزل الميت في قبره، واستره، واجعل له أعذاراً مثل أن تقول: تأخر أهله في الدفن، وأحسن الظن في أخيك المسلم، ولا تدري إذا كان حدث له هذا الشيء، فأنت ماذا سيحصل لك في مثل موقفه؟ فلا تسيء الظن في أحد.

وأحياناً تأتي الجنائز خارج المسجد، وأهل الميت يقولون: سنصلي عليه داخل السيارة، فافهم أنه بدأ يتغير، فلا تحرج الناس، بأنه يجب أن ننزله وندخله داخل المسجد، فتتأذى وتؤذي الناس، بل اتركه في مكانه، وصلوا عليه في مكانه والغالب والعادة هو هذا الشيء، فهم يرفضون أن ينزلوه من داخل السيارة؛ لأن رائحته قد تغيرت، حتى لا يتأذى منه أهل المسجد، فدعه على مكانه، وصل عليه في المكان الذي هو فيه.

وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)، يعني: في كل الأحوال الإسراع أفضل، فإن كان إنساناً صالحاً فاذهب به لما ينتظره في قبره من نعيم الله سبحانه، ومن رضاه.

وإذا كان إنساناً غير صالح، كأن يكون شريراً وغير جيد، فاذهب به أيضاً إلى المقبرة، ففي الحالتين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم).

ويستحب أن يكون الإسراع الذي لا يشق على الناس ولا يرهقهم، فلا تضع الميت داخل النعش، ثم تحمله وتجري به وما زال أهل المسجد في المسجد، وما زال الذين يلبسون أحذيتهم في المسجد.

فإذاً: لا بد من الإسراع في تجهيز الميت، والإسراع في دفنه، والمشي الذي لا يشق على الناس، وخاصة عندما يكون هناك كبار سن يمشون وراءها، ويريدون الوصول إلى المقابر، فإنه يصعب عليهم الجري مع من يجري، فإذاً يكون الإسراع بالجنازة، من غير أن نشق على الناس، ومن غير أن يختلف كلام الناس، كما يحدث في جنائز كثيرة، وأحياناً بعض الناس، يخرجون وراء الجنازة، وبعد أن يمشوا عشرة أو اثنتي عشرة خطوة يرجعون؛ لأن الجنازة فاتت، ولن يستطيعوا إدراكها، فيكون نصف المشيعون قد تخلفوا؛ بسبب الجري والإسراع، وقد كانوا يريدون أن يصلوا عليها.

ومن الأحاديث في ذلك: ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق).

وقوله: (فاحتملها الرجال على أعناقهم)، احتج بهذه الجزئية بعض العلماء الأفاضل في أنه لا بد من حمل الجنازة على الأكتاف، وأنه لا يجوز حملها في سيارة إسعاف ولا غيرها وهذا احتجاج خاطئ ولا وجه له، وإنما حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصف لحال موجود عندهم.

ولم ينكر على الصحابة حين توفي شهداء أحد وجاء أهل المدينة يحملون الشهداء على الجمال، والجمل مثل السيارة، إذاً: فهذا الأمر راجع للأيسر على الناس، فإن كان الأيسر أن تحمله في النعش فاحمله، وإن كان الأيسر أن تحمله في سيارة فاحمله فيها ولا وجه للقول بأن هذا الأفضل، وإنما الأفضل ما لا يشق على الناس في ذلك، فالأمر بحسب الأيسر على الناس.

قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني)، فإذا كان الميت صالحاً فإن الملائكة تبشره بقولها: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان.

فالإنسان يبشر عندما تخرج روحه، فتبشره الملائكة بأن ربك غير غضبان عليك، فلا تخف، فإذا دخل قبره كان التثبيت من الرب سبحانه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧]، فروح الإنسان وهو على نعشه، ذاهبين به إلى القبر، تقول: أسرعوا؛ لأنه يرى النعيم الذي ينتظره هنالك، فيريد أن يسرعوا به إلى مكانه، فتقول روحه: قدموني.

وإذا كانت غير صالحة وكان الميت إنساناً فاجراً أو شقياً، فتقول لأهله: يا ويلها! ولاحظ حسن التعبير والالتفات فلم يقل: يا ويلي! حتى لا يرجع الضمير إلى المخبر، وإنما الذي يقول ذلك هو الميت، فتقول هذه الجثة وهذه الروح: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها، والكون كله وأهله لا يسمعون شيئاً، وأهله يزيدون عليه المصيبة التي هو فيها، فيصيحون عليه، ويزيدونه عذاباً فوق ما هو فيه، وهو يقول: يا ويله! أين تذهبون به؟ فأنتم لا ترون الذي أراه، قال عليه الصلاة والسلام: (يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) فالإنسان لا يسمع هذا الصوت، ولو أن صوت الميت سمعه الناس لصعقوا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو سمع الإنسان لصعق)، من فزعه، وهول ما يراه، فإذاً: لو رأى الناس الذي يراه الميت، ولو كشف لهم عن الغيب فرأوا ما يكون في قبره لكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تسمعون ما أسمع لما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون) أي: لو كانوا يسمعون ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما يراه من الغيب، ومن عذاب أهل النار، وما يكون من السؤال في القبر، وسؤال يوم القيامة، ولو يعرفون ما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لما استمتعوا بشيء من الدنيا، ولكن الله الكريم سبحانه وتعالى حجب عنا ذلك، وأخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان الذي يطلبه الله عز وجل من عباده هو الإيمان بالغيب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣]، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومما أعده الله عز وجل للأشرار والفجار.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.