للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث جبريل في بيان مراتب الدين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد شعر الرأس، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد، قال: فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.

فقال: صدقت.

فعجبنا منه يسأله ويصدقه! ثم قال: يا محمد! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

قال: صدقت.

فعجبنا منه يسأله ويصدقه! ثم قال: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك.

قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.

قال: فما أمارتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، - قال وكيع: يعني: تلد العجم العرب- وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البناء.

قال: ثم قال: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، فقال: أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم دينكم)].

هذا الحديث أخرجه مسلم مطولاً، وأخرجه البخاري من حديث عمر، وأخرجه البخاري مختصراً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث عظيم اشتمل على مراتب الدين، ودل على أن الدين له مراتب ثلاث: هي الإسلام والإيمان والإحسان، فالإسلام له أركان ظاهرة مثل: الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان له أركان باطنة وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولابد من اجتماعهما ظاهراً وباطناً، فمن أتى بأركان الإسلام الظاهرة والباطنة فهو مؤمن باطناً وظاهراً، ومن أتى بأركان الإسلام الظاهرة ولم يأت بأركان الإيمان الباطنة فهو منافق في الدرك الأسفل من النار، فمن نطق بالشهادتين ظاهراً وصلى وصام وزكى وحج ولم يؤمن في الباطن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر فهو منافق في الدرك الأسفل من النار، ومن ادعى أنه مؤمن في الباطن بالله وملائكته وكتبه ورسله وامتنع عن النطق بالشهادتين، وعن الصلاة والزكاة والصوم والحج، فليس بصادق؛ لأنه لم يتحقق إيمانه؛ لأنه لابد للإيمان الباطن من عمل ظاهر يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، فلا بد من انقياد في الظاهر، وعمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون.

كما أن الإسلام الظاهر الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج لابد له من إيمان في الباطن يصححه، وإلا صار كإسلام المنافقين، فالمنافقون ينطقون بالشهادتين ويصلون ويحجون ويجاهدون، ولكنهم ليس عندهم إيمان في الباطن يصحح هذا الإسلام، فصاروا في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]، وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨]، فلابد من الأمرين جميعاً.

وركن الإحسان هو: أن يعبد الله على المشاهدة، وله مرتبتان: المرتبة الأولى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، فإن ضعف عن هذه المرتبة انتقل إلى المرتبة الثانية: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولهذا قال في نهاية الحديث: (أتاكم يعلمكم معالم دينكم) يعني: دلائله، وفي لفظ آخر: (أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، وفي لفظ: (يعلمكم دينكم) فجعل الدين مراتب ثلاث: إسلام وإيمان وإحسان.

ولما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يعني: علم السائل وعلم المسئول سواء؛ لأن هذا من اختصاص الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:١٨٧]، وقال في الآية الأخرى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:٤٢ - ٤٣]، وقال في آية ثالثة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:٦٣].

ثم سأل عن الأمارات فذكر له أمارتان، قال: (أن تلد الأمة ربتها)، وقد فسرها الراوي بأن تلد العجم العرب، يعني: أن يكثر التسري، فيتسرى الملوك وغيرهم العجميات الموالي فيلدن العرب، فيكون المولود عربياً؛ لأن أباه عربي وأمه أعجمية، وفي رواية أخرى: (أن تلد الأمة ربها) يعني: سيدها، وفي لفظ آخر: (تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها؛ لأن المالك إذا تسرى بالأمة وجاءت بولد صار سيداً على أمه؛ لأنه ولد المالك، وولد المالك سيد على أمه وعلى غيرها، وكذلك الأمة تلد ربتها، أي: بنت المالك، فتكون سيدة على أمها وعلى غيرها، فتلد الأمة سيدتها، أو تلد سيدها، فهذا من أشراط الساعة، أن يكثر التسري.

وكذلك من علامتها: (التطاول في البنيان)، وهناك علامات أخرى كثيرة لم تذكر في هذا الحديث، فأشراط الساعة كثيرة، منها صغيرة ومنها كبيرة، وهي التي تعقبها الساعة مباشرة، وهذه تأتي في آخر الزمان، وأولها المهدي ثم الدجال ثم نزول عيسى بن مريم ثم خروج يأجوج ومأجوج، فهذه أربعة متوالية مرتبة، ثم تتابع الأشراط: كالدخان وهدم الكعبة ونزع القرآن من الصحف ومن الصدور -والعياذ بالله- ثم طلوع الشمس من مغربها ثم خروج الدابة ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، ومن تخلف أكلته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر.

قال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان.

قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك.

قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذلك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤])].

وهذا هو الحديث السابق جاء بألفاظ أخرى، وفيه بيان مفاتيح الغيب الخمسة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]، وقد أخرجه البخاري ومسلم.

وقوله في أحد ألفاظ الحديث: (أن تلد الأمة ربها) فسرها بعضهم: بأن تكثر السرائر وتتداول حتى يشتري الرجل أمه ويتسراها وهو لا يعرف أنها أمه.

ولا يجوز للإنسان الحر أن يتزوج الأمة إلا بالشروط التي ذكرها الله في كتابه: بألا يستطيع مهر الحرة، ويخاف على نفسه الزنا، فمن وُجد هذان الشرطان فيه جاز له أن يتزوج الأمة، ومع ذلك قال الله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:٢٥] أي: إن الصبر أفضل، فإذا تزوج الأمة صار أولادها أرقاء تبعاً لأمهم، إلا إذا اشترط على السيد أن يكون أولاده أحراراً وقبل السيد، صاروا أحراراً وإلا كانوا أرقاء لسيد الأمة، وأما النسب فإنهم ينسبون لأبيهم، فلا يجوز الزواج بالأمة إلا بهذين الشرطين، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:٢٥] يعني: مهراً {أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:٢٥] أي: الإماء، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} [النساء:٢٥] أسيادهن، قال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء:٢٥] ولابد من هذا القيد وهي أن تكون محصنة، قال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء:٢٥]، وهذا الشرط الثاني وهو خشية العنت، يعني: أن يخاف على نفسه من الزنا، وليس عنده مهر الحرة، قال تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:٢٥].

والبعث الآخر المذكور في الحدي

<<  <  ج: ص:  >  >>