للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إعفاء اللحية علامة على محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره]

كل ما سبق من الأحاديث -وغيرها كثير- تدل على عِظَم لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم وطولها، فعجباً ممن يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يعفي لحيته؟! فكأن المحبة عندهم شيء لا يكلف، وبعضهم يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكر عليك مثلاً إذا لم تصلّ على النبي عليه الصلاة والسلام بعد الأذان، ويقول: أنت تبغض رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنت لا تحب النبي، أنا أحب النبي وأنا أصلي عليه صلى الله عليه وسلم، ففي مثل هذه الأشياء يُعتبر الإنسان مأجوراً، أما من يفعلون كثيراً من البدع ويستدلون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشدقون بها فإنما زيّن لهم سوء أعمالهم، فمن أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب صورته وأبغض صورة أعدائه، ومن كان يصلي عليه مدّعياً محبته فعليه أن يعفي لحيته إن كان صادقاً في هذه المحبة.

هذا كلّه بغضّ النظر عن حكم الوجوب، لكن هذه ثمرة المحبة، فالإنسان ينقاد لمن يحبه ظاهراً وباطناً، ويُرى ذلك في سلوكه، فيحب كل ما نُسب إلى محبوبه، كما يقول عنترة: وأهوى من الأسماء ما شابه اسمها أو مثله أو كان منه مقارباًً! فكل محبوب يحب ما كان منسوباً إلى حبيبه من الصورة والسيرة واللباس والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، كما يقول بعض الشعراء في ذلك: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فالذي يؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذه المحبة لا محالة إذا كانت صادقة يجد المحب نفسه مضطراً اضطراراً مدفوعاً بهذا الحب الصادق إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئونه كلها، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، فالذي يظهر اللحية تديناً بذلك وتشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن يُعظّم ويُحترم ويُحب، لا أن يحارب ويُضطهد ويؤذى ويسجن.

فإن لم تدفع المحبة صاحبها إلى الاتباع فهي دعوى وليست محبة صادقة، وفي مثل هذا يقول الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ.

يقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: (بينما أنا أمشي بالمدينة، إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى)، أي: أتقى لله؛ لأنه تواضع، وأبقى للثوب حتى لا يتلف بجرَّه على الأرض، (فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنما هي بُردة مَلْحاء)، يعني: مُبتذلة لا اعتداد بشأنها ولا توجد شبهة في مثل هذه البردة القديمة أن تكون مَدّعاة للتكبر والخيلاء، وهذا تبرير لتساهله في طول هذه البردة، (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما لك فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه).

معناها: أنه مع وجود هذا العذر الذي ذكره، وهو أن هذه البردة مبتذلة ولا يخشى أن تكون مدعاة للتكبر أو الخيلاء، لكن النبي عليه السلام بيّن له أن الصواب هو التأسي به صلى الله عليه وسلم، فهو المحبوب عند الله عز وجل في كل الشئون، وإن كان اتباعه في بعض الأمور غير واجب، ولكن المحب لا ينظر إلى الفرق بين الواجب والسنة، فيبادر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

بعض الناس يتساءل: هذا حرام أم مكروه؟ فإذا قيل له: مكروه.

كان ذلك سبباً للتمادي فيه، سبحان الله! أتسأل: هل اللحية سنة حتى تجتنبها أم واجبة حتى تتبعها؟ فهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟ فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بمحبوبه فإن المحبة تدفعه لذلك، والمحب في شغل شاغل عن البحث في الفرض والسنة، فإذا فَعَله الرسول عليه الصلاة السلام كان الصحابة يقولون: سمعنا وأطعنا، ويقتدون به، وهنا مع ما ذكره ذلك الصحابي من العذر، وأن هذه البردة مبتذلة ورثّة، ولا يحتمل فيها الفخر ولا الخيلاء ولا التكبر، لكنه مع ذلك أرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما ينبغي أن يفكر به أهل الاتباع وأهل المحبة.

فالسؤال الآن موجه لحليق اللحية: ماذا يكون جوابك إذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لك فيَّ أسوة؟! بل ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! تخيل أن الرسول عليه الصلاة السلام قد رآك، وإذا رأى وجهك لا لحية فيه أبغض هذا المنظر، وكَرِهَ النظر إليه، فحوّل وجهه غضباً وكراهية إلى الجهة الأخرى، وهو يقول لك: ما حملك على هذا؟ أو وهو يقول لك: ويلك! من أمرك بهذا؟ وهذا السؤال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لمن حلق لحيته، فقد روى ابن أبي شيبة: (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية).

وهذه الحالة التي استنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لعلّها أهون مما يحصل الآن من بعض الناس، حيث يحلقون اللحية والشارب، وهذا تشبه واضح بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجزّ لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يشير إلى ربه كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفّر لحيتي وأُحفي شاربي)، هذا واضح في أنه أمر من الله، فيضاف إلى الأدلة في قائمة الأمر بإعفاء اللحية.

ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزّقوا كل مُمزّق، فما قامت للفرس بعدها قائمة، ولم يكن للدولة الكسروية مُلْك بعد ذلك.

ثم كتب كسرى بعد تمزيق الكتاب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلْدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه، وكان كاتباً حاسباً- مع رجل آخر من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا)، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي) رواه ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً، وحسّنه الألباني.

فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر الذي جاءه من السماء: (إن ربي قتل ربكما الليلة)، حيث عاجل الله كسرى -لعنه الله- بالعقوبة، وسلّط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجع الرسولان حتى قدما على باذان إلى آخر الحديث.

فالذي يظهر من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره النظر إلى ذينك الرجلين، وهذا الموقف يُحرّض كل مؤمن على ألا يفعل فعلاً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان حلق اللحية أو غير ذلك مما يخالف السنة.

فانظر إلى الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية، تجد كل واحد من هؤلاء الأفراد يحرص على أن يرضي زعيم الحزب، وألا يؤذي شعوره أو يفعل شيئاً يكرهه، ويتبعه في سيرته وصورته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه.

فالعجب من هؤلاء الذين يحلقون لحاهم؛ كيف يزعمون محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون هذا الفعل الذي يتأذى منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجد أحدهم من ذلك حرجاً في نفسه؟! نذكر هنا قصة رجل من الشعراء يسمى: مرزا قتيل، كان يكتب شعراً في الحكمة والمعرفة، وهناك رجل إيراني كان يقرأ كتابات هذا الشاعر، فأُعجب به جداً، واعتقد في قلبه أن هذا الرجل الذي يكتب هذه الأشعار الدينية والمواعظ والحكم هو رجل عظيم جداً في دينه، فزكى روحه وجسده، فرحل إليه وسافر من بلده حتى يتشرف بلقائه، فلما وصل إلى بابه رآه يحلق لحيته، فقال مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟! فقال مرزا قتيل -تبعاً للفلسفة المنتشرة هذه الأيام-: نعم، أحلق لحيتي ولكن لا أجرح قلب أحد.

يعني: أجرح وجهي بحلق اللحية، لكن لا أجرح قلب أحد!! وهذا إظهار للمعصية في ثوب مزين ومزخرف كما يفعل كثير من الناس اليوم؛ يقولون: أنتم تهتمون بالشعور ولا تهتمون بشعوري، يعني: تهتمون بالشعر وتجرحون شعور الناس.

فردّ عليه هذا الرجل الإيراني العامي بالبداهة قائلاً: بلى، إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكلام هذا الرجل حق، كما رأينا في قصة هذين الفارسيين لما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم كره النظر إليهما، وآذاه منظرهما، وجرح ذلك قلبه حتى إنه حوّل وجهه عنهما وصرخ فيهما: (ويلكما! من أمركما بهذا؟).

فلما سمع ذلك مرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً، فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.

<<  <  ج: ص:  >  >>