للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف المنافقين من صلاة العشاء والفجر]

قال صلى الله عليه وسلم مبيناً موقف المنافقين من صلاة العشاء: (ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها) رواه مسلم.

يعني: لو علم أنه إذا ذهب إلى المسجد سيجد وليمة فيها عظم عليه لحم لسارع إلى ذلك؛ لينال حظاً من الدنيا، وليس لأجل الصلاة التي يترتب عليها الثواب العظيم، بل هو يزهد فيها! إذاً: المنافقون لو لاح لهم شيء من الدنيا يأخذونه، وكانوا على يقين منه؛ لبادروا إليه، فهذا شأنهم ودأبهم، فدل على أن تكاسل المنافق عن الصلاة نتيجة عدم اليقين في الثواب الذي وعده الله به؛ لأنه لو كان على يقين من الثواب لبادر.

إن قلت: حي على الشهوات طاروا إليها خفافاً وثقالاً، وإن قلت: حي على الصلاة قاموا إليها كسالى، لهم في المعاصي وثبات، وفي الطاعات سكون وثبات! وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).

قوله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)، ظاهر الحديث أن المنافقين ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، لكن يكونون كسالى، وتكون الصلاة ثقيلة على قلوبهم، وربما يشهدونهما أحياناً، ويتخلفون عنهما في الغالب؛ لأن صلاة الفجر وصلاة العشاء في الظلام فلا يراهم الناس، ولأن صلاة العشاء في آخر اليوم وقد يشق عليهم الخروج من المنزل، وصلاة الفجر تقتضي مفارقة الفراش ونحو ذلك، فيفهم من الحديث أنهم ربما شهدوا صلاتي الفجر والعشاء، أما ما عداهما من الصلوات فإنهم يحضرونها ويشهدونها.

وإذا قارنا بين ظاهر الشخص الذي يدعي أنه مسلم وأنه مؤمن ولا يشهد الصلوات الخمس جماعة في المسجد، وبين ظاهر المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن ظاهر المنافقين أنهم كانوا يخرجون إلى الفجر والعشاء أحياناً، وهي أثقل الصلوات عليهم، فأيهما من حيث الظاهر أكمل؟ ظاهر المنافقين أكمل ممن لا يصلي الصلوات الخمس كلها في جماعة، لكن في الباطن يتفاوتون، لكن كيف ترضى أن يكون ظاهر المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار خيراً من ظاهرك؟! يقول صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار).

متفق عليه.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: وذلك لأن صلاة العشاء تأتي وقد أتعبه عمل النهار، فيثقل عليه القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا.

فما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).

قوله: (إن الله يبغض) أي: يكره.

قوله: (كل جعظري) الجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر.

قوله: (جواظ) هو الجموع المنوع، يكثر جمع المال، ثم لا يؤدي حق هذا المال من الزكاة وغيرها.

قوله: (صخاب في الأسواق) يقال: تصاخبوا أي: كثر سخبهم، وصخبهم، بالسين والصاد، وهو الصياح والضجيج، فالصخب في الأسواق مما يذم به الإنسان، كما ينادي الباعة على الخضروات والفواكه ونحوها، وللأسف الشديد ما يحدث في الأسواق يحدث أمام المساجد عند خروج المصلين من صلاة الجمعة، تجد رفع الأصوات عند بيع الكتب أو الأشرطة، تجد بعضهم يقول بصوت مرتفع: كتاب الشيخ فلان، وكأنه يبيع الشيخ نفسه، أو شريط الشيخ فلان، فرفع الصوت ليس من أخلاق المسلمين، كما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة: (ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق)، ورفع الصوت شيء مذموم؛ وذلك لقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:١٩]، فالصخب ورفع الصوت لا يليق بوقار المسلم، وكذلك عندما يقف أمام بيت صاحبه في الشارع ويناديه بصوت مرتفع: يا فلان! سواء كان في الليل أو في أول النهار، فهذا أيضاً مما لا يليق بالمسلم؛ لأنه يسلك سلوك الأعراب الجفاة الغلاظ الذين كانوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، هذا مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم.

قوله: (جيفة بالليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى الليل كله، ملقى على فراشه كأنه جيفة منتنة ميتة، جيفة بالليل لا صلاة عشاء ولا قيام ولا فجر ولا ذكر.

قوله: (حمار بالنهار) أي: طول النهار يعمل ويسعى وراء الدنيا، ويكد ويكدح كالحمار الذي يشقى ولا يتعبد.

قوله: (عالم بأمر الدنيا) أي: يعرف تفاصيل أتفه الأمور، لاعب الكرة الفلاني تزوج كذا، وعنده أولاد كذا، ويحب اللون كذا، والأكل المحبوب له كذا، وكل هذه التفاهات! كذلك تجده يعرف أنواع الخشب وأنواع الأقمشة وأنواع كذا من علوم الدنيا، ثم هو لا يدري بما يجيب الملكين حينما يسألانه في قبره: (من ربك؟! وما دينك؟! وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم عليه الصلاة والسلام؟!).

فالمنافقون خشب بالليل صخب بالنهار، إذا جن عليهم الليل سقطوا نياماً كأنهم خشب لا يذكرون الله تعالى ولا يصلون، فإذا أصبحوا تصاخبوا ورفعوا أصواتهم على الدنيا شحاً وحرصاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حق الواحد منهم: (جيفة بالليل حمار بالنهار).

قال قتادة: كان يقال: ما سهر الليل منافق، أي: ما سهر الليل منافق في العبادة، كما جاء في الحديث: (خصلتان لا تجتمعان في منافق: حسن سمت، ولا فقه في الدين).

لا يمكن أن تجتمع هاتان الخصلتان في المنافق، قد يكون عنده حسن السمت، لكن ليس عنده فقه في الدين.

وعندما يحاول المنافقون مشاركة المؤمنين في سجودهم لربهم عز وجل يوم القيامة، يحال بينهم وبين هذا التكريم، وتصبح ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، كلما أراد أحدهم أن يسجد، خر على قفاه، فيبوءون بالذل والخزي والهوان، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢].

وهذه علامة بين المؤمنين وبين ربهم تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:٤٢ - ٤٣].

قوله: (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) يعني: كانوا يسمعون الأذان في الدنيا (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي: وهم في صحة وعافية وإمكانية، ومع ذلك يتخلفون عن صلاة الجماعة، فلذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة؛ لأن الذم هنا على ترك صلاة الجماعة.

إذاً: الدعاء إلى السجود يكون عن طريق الأذان، والأذان يكون لصلاة الجماعة، فالجزاء من جنس العمل كما تركوا الصلاة اختياراً في الدنيا وهم قادرون؛ يجازون في الآخرة أنهم يمنعون من السجود في وقت التكريم والنجاة.

<<  <  ج: ص:  >  >>