للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجوب التناصح في أمر الصلاة]

إن التناصح في أمر الصلاة أمر ضروري، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة) فإذا كانت الصلاة عمود الدين؛ فإن واجب المسلم إذا رأى من يقصر في صلاته ويخل بها أن ينصحه وأن يعلمه، فإذا رأيت من يسيء في صلاته فلا تسكت عليه، بل يجب عليك أن تنصح أخاك كي يصحح عبادته، خاصة أن معظم المخالفات تقع بسبب الجهل، فمثلاً لو سجد مصل على ظهر أصابع رجليه، وكانت الأظافر إلى جهة الأرض، فبعض العلماء يقول ببطلان الصلاة في مثل هذا؛ وذلك لما ورد في الحديث: (استقبل بأصابع رجليك القبلة) وترك الاستقبال بأصابع الرجلين بين السجدتين أو في جلسة التشهد الأمر أخف، لكن عند السجود لا بد أن يستقبل القبلة بأصابع رجليه، فتكون أظافره إلى جهة القبلة لا إلى جهة الأرض؛ لأن هذا فيه مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستقبل القبلة بأصابع قدميه، خاصة في السجود، ونحو ذلك من المخالفات بسبب الجهل بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والدليل على وجوب هذا التناصح هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل المسيء في صلاته، والحديث معروف ومشهور؛ فإنه قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع ففعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا، فعلمني) فعلمه كيفية الصلاة كما في الحديث المتفق عليه، وهو الحديث المشهور بحديث المسيء في صلاته، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم واجبات الصلاة، وهذا الحديث أصل في معرفة واجبات الصلاة.

وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: مثل الذي يرى الرجل يسيء في صلاته فلا ينهاه، مثل الذي يرى النائم تنهشه حية ثم لا يوقظه.

يعني: لو وجدت أخاك المسلم نائماً والحية تكاد أن تعضه بنابها وتهجم عليه ألا توقظه لتنقذه من ذلك؟! بلى، وكذلك إذا رأيت أخاك يسيء في صلاته فهو معرض للهلكة؛ لأنه يفسد أهم أركان الدين، ولا يصحح أهم واجبات العبادات، فإذا تركته فقد خذلته تماماً كما لو رأيته سيقع في بئر أو نار أو رأيت حية ستنهشه ثم لم تحذره ولم تنصحه.

ينسب إلى الإمام أحمد أنه قال: واعلموا أنه لو أن رجلاً أحسن الصلاة فأتمها وأحكمها، ثم نظر إلى من أساء في صلاته وسبق الإمام فيها فسكت عنه ولم يعلمه؛ شاركه في وزرها وعارها.

إذاً: المحسن في صلاته شريك المسيء في صلاته إذا لم ينهه ولم ينصحه.

وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: إن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب، وذلك قبل أن يلي شيئاً من المناصب التي وليها فيما بعد، فجعل يركع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلم، أخذ سعيد بطرف ردائه، وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة، فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه، أي: كان سعيد لا يريد أن يقطع الورد الذي يقال عقب الصلاة، وفي نفس الوقت لا يريد أن ينشغل بمعاتبته على أخطائه في الصلاة عن الذكر الذي تعود أن يحافظ عليه، فأمسك بردائه حتى لا يفلت منه ويقوم.

يقول: حتى قضى سعيد ذكره ثم أقبل عليه فقال له: يا سارق يا خائن! تصلي هذه الصلاة؟! لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك، فلم يرد عليه.

ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائباً على الحجاز، فلما قتل ابن الزبير كر راجعاً إلى المدينة نائباً عليها، فلما دخل المسجد قصد مجلس سعيد بن المسيب، فخشي الناس على سعيد منه فجاء حتى جلس بين يديه، فقال له الحجاج: أنت صاحب الكلمات، فضرب سعيد الحجاج في صدره بيده وقال: نعم، قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام ومضى.

فـ الحجاج الدموي السفاح الشرير، انتفع بالنصيحة رغم شدتها عليه، لكنها أثرت فيه، والحجاج ليس كله عيوب، فقد كان له فضائل وصفات جيدة في جنب ظلمه وسفكه لدماء المسلمين، وهذه من حسناته، وقد كان يقول عند الاحتضار: اللهم إن الناس يقولون: إنك لا تغفر لي؛ فاغفر لي، أي: خيب ظنهم وارحمني برحمتك الواسعة.

وهذا الذي يسيء الصلاة سوف يعلمها لأولاده وأبنائه، وإن كان مدرساً سيعلمها للتلاميذ، فأنت إذا نصحته صححت عبادته وعبادة من وراءه ممن يعلمهم هذه الصلاة.

فإذا استحضرت أن جناية الذي يسرق صلاته ولا يطمئن فيها جناية متعدية على من تحت ولايته، أشفقت على نفسك من مغبة تقصيرك في نصيحته، فإنه إذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام.

عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى! يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟! قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.

أي: لا شك أن أولاده سيسيئون الصلاة مثله؛ لأنه الذي يعلمهم، وهم يقتدون به.

<<  <  ج: ص:  >  >>