للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ضرورة الاهتمام بتربية الطفل منذ الصغر]

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فعن معقل بن يسار المزني رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة) رواه الشيخان.

قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد) يعني: ليس من عبد.

قوله: (يسترعيه الله رعية) وفي رواية البخاري: (ما من عبد استرعاه الله) بلفظ الماضي.

قوله: (فلم يحطها) يعني: لم يحفظها ولم يتعهد أمرها.

قوله: (بنصيحة) وفي رواية أخرى: (بالنصيحة)، وفي رواية أخرى: (بنصحه) يعني: بأن ينصح لهم.

قوله: (إلا لم يجد رائحة الجنة) يعني: أنه لا يدخل الجنة، لكن يحمل على أنه في حق من يستحل ذلك.

أو المعنى: أنه لا يجد رائحة الجنة مع الفائزين الأولين.

أو يقال: إنه خرج مخرج التغليظ وزاد الطبراني: (وعُرْفَها -يعني: رائحتها- يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاماً).

في هذا الحديث وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكلما كثر ظلم أئمة الجور كثر استحقاقهم للعذاب يوم القيامة، وكثر المطالبون بحقوقهم منهم يوم القيامة، ولا قدرة له على التحلل، لأنه في يوم القيامة لا يملك شيئاً يفدي به نفسه، إلا أن يتفضل الله تعالى عليه فيرضي عنه خصماءه، وهذا الحديث ورد بمعناه حديث آخر عن نفس الصحابي معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه بلفظ: (ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة).

فكل منهما يغني عن الآخر؛ لأنهما في الحقيقة وردا عن راو واحد ومعناهما متحد، لكن مع اختلاف اللفظ نستطيع أن نستنتج فائدة جديدة وهي أن قوله هنا في هذا اللفظ: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) يفيد العموم، فيشمل عدم نصح الإمام لرعيته، بأن يغشها، ويضيع حدودها وحقوقها، ويترك سيرة العدل فيها، والذب عنها وعن دينها فيما يطرأ عليه من التحريف أو البدع، وترك حماية حوزة رعاياه، فإن غشهم بشيء من ذلك ناله الوعيد المذكور؛ لأنه خان الله تعالى فيما ائتمنه عليه وجعله خليفة فيه، وواسطة بينه وبين خلقه في تدبير أمرهم، والغش في شيء من ذلك كبيرة توعد عليه بالنار.

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خلف الأبي المالكي صاحب كتاب: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم رحمه الله تعالى: لا يقتصر الحديث على الأمراء، بل هو عام في كل من وكل إليه حكم غيره.

قوله: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) هذه الرواية بلفظ: (عبد) خلافاً للرواية الأخرى التي بلفظ: (ما من وال) فالرواية التي هي بلفظ (ما من عبد) هي نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، يعني: كل عبد يكون مسئولاً عمن وكل إليه حفظه، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فعدد أنواعاً كثيرة من هذه الرعية حيث قال: (فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته).

إذاً: الحديث يعم كل من استرعاه الله سبحانه وتعالى رعية، ووكل بحفظ رعيته، ورعاية شئونهم، والاجتهاد في مصلحتهم.

وبلا شك أنه يدخل دخولاً أولياً في مثل هذا الحديث ولاية الأب على زوجه وأبنائه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عبد من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة في بيتها) إلى آخر الحديث.

على أي حال إذا انتبهنا للعموم الموجود في هذا الحديث وضممنا إليه قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:٦]، يتضح ويتجسد لنا خطورة مسئوليتنا على أبنائنا ونسائنا، وأننا سنسأل عنهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نعد للسؤال جواباً.

والحقيقة أننا -أمة المسلمين عموماً إلا من رحم الله- نعاني من تقصير شديد في الاهتمام بأمر الأطفال، الذين هم في الحقيقة هم المستقبل، فأي أمة تستطيع أن تصنع مستقبلها بعون الله سبحانه وتعالى إذا هي أولت الأطفال الرعاية التي يستحقونها، ونحن للأسف لازلنا ننظر للطفل على أنه لعبة ملهية نتلهى بها، وأنه طفل صغير، ولا نتهيأ لتربيته وإعداده وتنميته نمواً سوياً إلا بعد فوات الأوان، وسبق أن ذكرت لكم قصة حكاها أستاذنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى، فيقول: إنه سمع من الأستاذ مالك بن نبي الجزائري رحمه الله تعالى: أن رجلاً جاء يسترشده في تربية بنت له ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أنني بالغت في جواب هذا السائل، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه.

وفي هذا إشارة إلى أن كل ما نعانيه من كثير من الشخصيات البارزة في شتى دول العالم الإسلامي هو من عن آثار ونتائج التربية السيئة التي أسديت إليهم منذ الصغر، فالأمة كلها تحصد الثمرات المريرة لهذه التربية المعوجة، خاصة إذا كانت التربية بعيدة عن الدين، فحينما نرى واحداً من الطواغيت يفاخر أنه منذ نعومة أظفاره نشأ وهو يرى صورة أتاتورك في مكان ما في جدار الغرفة، وهو في نظر أبيه معظم، وأنه خرج وكل همه في الحياة أن يكون مثل أتاتورك لعنه الله تعالى، فكيف يكون مصير أمة مثل هذا يكون قائداً لها، إذا كان نشأ على محبة الاقتداء والتأسي بعدو الله وعدو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والكلام في هذا الموضوع ليس فيه مبالغة، بل موضوع التربية موضوع خطير جداً، ونحن الذين نضيع الفرص.

حتى إن العلوم الحديثة تقول: إن التربية لا تبدأ من مجرد الولادة، بل تبدأ من قبل الولادة؛ ولذلك حينما نرى الأمم -التي تسمى أمماً متقدمة في هذه المجالات- تهتم اهتماماً غير عادي بتوجيه الأطفال وبتربيتهم، وممكن أن نستفيد منهم في هذا الجانب، لكن علينا أن نجتنب ما يخالف ديننا.

كنت أقرأ في كتاب يتحدث عن التربية المبكرة للأطفال، فيقول: إنها تبدأ من فترات الحمل والطفل جنين في بطن أمه، وكيف أن بعض الأمهات قد تقوم بالتدريب لهذا الطفل الجنين، وذلك بأن تعود الطفل على أن يسمع صوتها، كأن تضرب على جدار بطنها بحركات رفيقة معينة مرتبطة بأصوات معينة، وتدغدغ هذا الطفل بحيث إذا خرج يكون قد عرف صوت أمه؛ لأنه كان يسمع صوتها وهو في بطن أمه.

ومن أغرب ما قرأته أن امرأة من الشام سورية كانت تعود جنينها وهو في بطنها على سماع آيات القرآن الكريم كانت تستمع أشرطة القرآن الكريم، أو تتلو هي القرآن كثيراً، فولد هذا الطفل فاستطاعت مع صغره أن تعوده على سماع القرآن وحفظه، حتى إنه حفظ القرآن كله في سن الخامسة من عمره! إذاً: على الرجل أن يبدأ بالدعوة الصالحة أن يرزقه الله امرأة صالحة؛ لأن اختيار الأم الصالحة يعد من إحسانك إلى أبنائك، كذلك من إحسانك إلى أبنائك أن تدعو لهم وهم في عالم الغيب أن يرزقك الله الذرية الصالحة كما كانت سنة الأنبياء، فالأنبياء كان همهم أن يرزقوا ذرية صالحة طيبة.

الطفل يحتاج إلى هذه الرعاية، وكما أننا نهتم بنمو الجسم فلا نهمل نمو النفس والروح، لكن للأسف الشديد لا نجد إلا القليل من الناس يهتمون بهذه الأمور.

نحن حينما نتأمل في قوله تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] يتوجه تركيزنا إلى آيات الله في الجوانب التشريحية أو العضوية أو الوظيفية لأبداننا، ونغفل تماماً عن آيات الله سبحانه وتعالى في خلق هذه النفس، وفطرها على التوحيد، وهذه الكفاءات المودعة في هذه النفس الصغيرة، فتربية الطفل تبدأ مبكرة جداً حتى في فترة الرضاعة كما ذكر الأستاذ مالك بن نبي، وهو كلام رجل خبير لم يأت جزافاً، فالطفل منذ البدايات الأولى لميلاده تتشكل شخصيته في الخمس السنوات الأولى؛ لأنها السنوات التي فيها تتكون شخصية هذا الطفل بكل معالمها.

فإذا جاء ابنك وقد عمل أي شيء كأن نفذ فكرة، وجاء إليك مسرعاً يتوقع منك أن تكافئه أو تشجعه، ثم إذا به يصدم وتقول له: هذا لعب وأنا مشغول، فبالتالي يصاب بإحباط، فمثل هذه التصرفات اليسيرة تكون عميقة الأثر في هؤلاء الأبناء، فمن الخطأ أن تجابه ابنك بهذا الأسلوب الجافي.

حتى الإرضاع له تأثير مهم جداً في تكوين نفسية هذا الطفل فيما بعد، هل يتم بطريقة (ميكانيكية) كآلة ترضع الولد أم يتم مع ضمه بحنان وبإبداء العواطف؟ فهذا الطفل الرضيع تتكون شخصيته بالمثل في مقابلة ما يسدى إليه من طريقة المعاملة كما ضرب الأستاذ مالك بن نبي هذا المثال: الطفل وهو صغير في المهد إذا أخطأت أمه في تربيته بحيث إذا صرخ يحصل على ما يريد، فإنه ينشأ على الصراخ بحيث إذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن! فكل الويلات التي نذوقها الآن من كثير من حكام المسلمين هي نتيجة هذه التربية المنحرفة، فالأمة كلها تدفع ثمن التربية الخاطئة التي ربوها في الصغر وفي المهد، انظروا كم هي خطورة هذه التربية التي تخرج لنا زعماء مشوهين نفسياً وعقدياً إلى آخره؟ إذاًَ: أول ما ينبغي أن يسدى إلى الأطفال هو التربية الصحيحة المبكرة، وهناك من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة ما يكشف لنا أن القرآن والسنة قد سبقا هذه العلوم الحديثة -التي يتباهون بها الآن- بمئات السنين، فما أكثر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم حتى في الجانب النفسي، فإن القرآن والسنة سبقا هذه العلوم، وهما متفوقان على هذه العلوم الحديثة؛ لأن ما في القرآن وما في ا

<<  <  ج: ص:  >  >>