للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأقوال]

تقدمت قصص عن النجباء من الأطفال وأن سيماهم تظهر في وجوههم، وأيضاً تظهر سيماهم في كلامهم، فقد ينطق الله سبحانه وتعالى الغلام الحدث بما يعجز عنه فطاحل الأدباء، فيصير ذلك علامة كاشفة لما وضع الله بين جنبيه من الحكمة، وما متعه به من الذكاء.

روي عن معمر في تفسير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:١٢] أن الصبيان قالوا ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت.

قال الشيخ: يتيم بن يوسف المراكشي يحكي عن أحوال شيخ الإسلام الإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى - وهي المدينة التي ولد فيها، ولذلك ينسب إليها فيقال: النواوي أو النووي - والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا ينشغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال: فأتيت الذي يقرئه القرآن أوصيه به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه، وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجم أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.

وترجمة الإمام النووي من أروع التراجم، وفيها من العبر شيء عظيم.

كان الإمام النووي رحمه الله تعالى غلاماً صغيراً فاستيقظ في الليلة السابعة والعشرين من رمضان في وسط الليل، وجعل ينادي من في البيت ويقول: ما هذا النور الذي أراه قد ملأ الدار، ففطن أبوه لمقام ولده، فأولاه اهتماماً وعناية خاصة، حتى صار هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى.

وإياس بن معاوية قاضي البصرة كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل، تقدم إياس وهو صبي إلى قاضي دمشق، ومعه شيخ في خصومة بينه وبين الشيخ، فقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس: أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك.

وهو لم يخالف الأدب؛ لأنه بدأ الكلام بالتلطف وقال: أصلح الله القاضي! هذا الشيخ ظلمني واعتدى علي وأخذ مالي، وهذه ظلامة، فقال القاضي: ارفق به، ولا تستقبل الشيخ بهذا الكلام، فقال إياس: أصلح الله القاضي! إن الحق أكبر مني ومنه ومنك، فقال: اسكت، فقال: إن سكتُّ فمن يقوم بحجتي؟! فقال: تكلم فوالله ما تتكلم بخير، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فنطق بخير الكلام وأفضل الكلام، أراد أن يغلب القاضي لما قال له: تكلم فوالله ما تتكلم بخير، فبين له أنه قادر أن يتكلم بالخير، فرفع صاحب الخبر هذا الخبر إلى الخليفة، فعزل القاضي وولى إياس بن معاوية مكانه.

وأدخل على الرشيد صبي له أربع سنين، فقال له: تمن.

يعني: ما تحب أن أهب لك، فأجاب الصبي الصغير فقال: حسن رأيك.

والآن لو تقول لولد: ما تحب أن أهب لك؟ فسيقول: الشوكولاته، واللعب، والكرة.

وحكى ابن الجوزي أن المعتصم ركب إلى خاقان يعوده، والفتح صبي يومئذٍ، فقال له الخليفة المعتصم: أيما أحسن دار أمير المؤمنين أو دار أبيك؟ فماذا أجاب الصبي الصغير الفتح بن خاقان؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن، فأراه فصاً في يده فقال له: هل رأيت يا فتح! أحسن من هذا الفص؟ قال: نعم، اليد التي هو فيها! فانظر إلى اللباقة وحسن الجواب.

وأنا أعلم صبياً صغيراً جداً كانت تقول له أمه: قل لي خبراً يسرني، فقالت له مرة: قل لي خبراً يحزنني؟ فقال لها: لن تستطيعي أن تصبري، فقالت: قل؟ قال: سأقول لك خبراً يحزنك جداً، وبعد إلحاح شديد، وهو يشفق عليها، قال لها: مات النبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا صبي صغير وينتقي هذا الجواب، حيث عرف أن أحب شخص ينبغي أن يكون إلى كل مسلم هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكبر مصيبة وقعت بالأمة المحمدية هي موت النبي عليه السلام؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (ليعز المسلمين في مصائبهم المصيبة بي).

فأكبر عزاء لمن يفقد أي شخص أن يتذكر موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومرّ الحارث المحاسبي وهو صغير بصبيان يلعبون على باب رجل تمار، -يعني: يبيع التمر- فوقف الحارث ينظر إلى لعبهم، وخرج صاحب الدار ومعه تمرات، فقال للحارث: كل هذه التمرات، فقال الحارث: ما خبرك فيها؟ -يعني: من أين أتيت بها؟ - قال: إني بعت الساعة تمراً من رجل، فسقطت منه هذه التمرات، فكل أنت هذه التمرات التي سقطت من هذا الرجل، فقال الحارث المحاسبي وهو طفل صغير للتاجر التمار: أتعرفه؟ قال: نعم، فالتفت الحارث إلى الصبيان الذين يلعبون وقال: أهذا الشيخ مسلم؟! قالوا: نعم، فمر وتركه.

يعني: مضى الحارث وتركه، فتبعه التمار حتى قبض عليه وقال له: قل لي ما في نفسك؟ فقال: يا شيخ! إن كنت مسلماً فاطلب صاحب التمرات حتى تتخلص من تبعته كما تطلب الماء إذا كنت عطشاناً شديد العطش، يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين من سحت وأنت مسلم؟ فقال الشيخ: والله لا اتجرت للدنيا أبداً.

وقال عبد الرحمن بن محمد صاحب كتاب صفات الأولياء: حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري بإسناده أن فتحاً الموصلي رحمه الله تعالى قال: خرجت أريد الحج، فلما توسطت البادية إذا غلام صغير لم تجر عليه الأحكام، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي، قلت: إنك صغير لم تجر عليك الأحكام، فقال: لقد رأيت أصغر مني مات -يعني: فهو يبادر إلى الحج حتى لو لم يكن مكلفاً؛ لأنه يخشى أن يموت- فقلت: إن خطوك قصير، قال: علي الخطو وعليه التبليغ إن شاء، ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]؟! قلت: لم أر معك زاداً؟ قال: زادي في قلبي اليقين، حيثما كنت أيقنت أن الله يرزقني، قلت: إنما أردت أنك تتزود الخبز والماء، قال: ما اسمك؟ قال: قلت: فتح، قال: يا فتح! أسألك؟ قلت: سل؟ قال: أرأيت لو أن أخاً لك من أهل الدنيا دعاك إلى منزله، أما كنت تستحي أن تحمل معك طعاماً لتأكله في منزله؟ قلت: بلى، قال: فإن مولاي دعاني إلى بيته، فهو يطعمني ويسقيني، قال فتح: فجعلت أعجب من أمره وبيانه، وزهده مع صغر سنه.

وروى أيضاً صاحب قصص الأولياء ومراتب الأصفياء بإسناده قال: ذكر سهل التستري الله وهو ابن ثلاث سنين -أي: كان يذكر الله سبحانه وتعالى وعمره ثلاث سنوات- وصام وهو ابن خمس سنين حتى مات، وساح في طلب العلم وهو ابن تسع سنين، وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وحينئذٍ ظهرت عليه الكرامات، وكان يفتي في مسائل الزهد والورع، ومقامات الإرادات وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ ثلاث عشرة سنة عرضت له مسألة، فلم يجد في تستر من يجبيه عنها، فقال لأهله: جهزوني إلى البصرة، فلم يجد بالبصرة من يستفتيه، فذكر له حمزة بن عبد الله بعبدان فقصدها، فوجد عنده ما يريد وصحبه.

وقال أيضاً: بلغني أن أبا الحسين أحمد بن محمد النوري المدعو بـ النوري لما قرأ القرآن الكريم ألزمه أبوه أن يدخل معه في حانوته، فكان إذا أصبح أخذ أورقاً ودواة -أي: حبراً وقلماً- وذهب يسأل عما جهل من كتاب الله تعالى، ويكتب ما يقال له، ثم يأتي أباه، وإذا بعثه في حاجة أخذ ألواحه ودواته، فيسأل من مر به من أهل العلم، فإذا غاب يزجره أبوه لغيبته، ويتهدده، وربما ضربه على ذلك أحياناً، وذكر الغزالي فقال له أبوه: ليت شعري -يعني: ليتني أعلم- يا بني! ما تريد بعلمك هذا؟ قال: أريد أن أعرف الله تعالى وأتعرف إليه، قال: كيف تعرفه؟ قال: أعرفه بتفهم أمره ونهيه، قال: وكيف تتعرف إليه؟ قال: أتعرف إليه بالعمل بما علمني، قال أبوه: يا بني! لا أعرض لك في أمرك هذا ما بقيت.

وقال علي بن الجعد: أخبرني أبو يوسف القاضي قال: توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لـ أبي حنيفة: ما لهذا الصبي مفسد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه، فقال لها أبو حنيفة: مري يا رعناء! هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق.

فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت، وذهب عقلك.

قال أبو يوسف: ثم لزمت أبا حنيفة، وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خلة -يعني: حاجة- فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد، وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي هارون: يا يعقوب! كل منه، فليس يعمل لنا مثله كل يوم، فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين! فقال: هذا فالوذج بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مما ضحكت؟ قلت: خيراً أبقى الله أمير المؤمنين! قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك! وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أب

<<  <  ج: ص:  >  >>