للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حركة أهل الباطل]

إن النماذج -بلا شك- كثيرة، وإذا حاولنا أن نستوفيها فهذا مما يحتاج إلى وقت طويل، ونحن نذكر نماذج فقط، فإذا كنا قد اطلعنا على هذه النماذج -سواءٌ أكانت من سيرة السلف الصالح رحمهم الله تعالى أم من مواقف الخلف والمتأخرين- وإذا كان سعي الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وحركتهم في نصرة الدين هي ثمرة أو أثر من آثار علو همتهم، ولئن كان نشر مناقبهم وإذاعة أخبارهم من أسباب إيقاظ الغافلين، فإنه قد ينضم إلى هذه الأسباب تقريع النائمين والسادرين في الغفلة، وذلك بأن نذكر لهم شيئاً من التوبيخ كي تتحرك الهمم، ليس بأن نذكر نماذج أهل الحق من السلف والخلف فحسب، وإنما ربما يثير هممهم وينشطها ويوقظها من رقدتها أن نذكر نماذج لا من علو همة أهل الباطل، لكن من حركة أهل الباطل في الانتصار لباطلهم، وكيف أنهم يبذلون ويصبرون ويضحون في سبيل إطفاء نور الإسلام، وهيهات هيهات! قال عز وجل: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:٣٢].

فالكافر لا يصح أن يوصف بعلو همة، ولا يمكن أن يوصف بعلو الهمة، وإنما نذكر أنفسنا كي نستحيي من الله سبحانه وتعالى.

ألم تسمع قوله تعالى في وصف حركة أهل الباطل: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:٦]؟! وقص الله عز وجل عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:٦٨].

وقال في شأن الكافر: ((وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى)) أي: تحرك {فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥].

وقال أيضاً: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ} [المائدة:٦٢].

وقال أيضاً: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران:١٧٦].

فهي حركة، لكنها حركة مذمومة مشئومة، تعود عليهم بالوبال والنكال وحبوط الأعمال.

ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦].

وقال أيضاً: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:٢ - ٣] يعني: كانت في الدنيا عاملة ناصبة، تتعب وتدأب في سبيل التقرب إلى الشركاء من دون الله تبارك وتعالى.

وقال عز وجل أيضاً: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٣ - ١٠٥].

وقال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣].

إن حبوط أعمال الكافرين راجع إلى فقدانهم الإيمان، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:١٩].

فكما أن حركتهم كانت وبالاً عليهم فحركة الكافر -أيضاً- تصير وبالاً عليه في الآخرة؛ لأن هذه الحركة إما أنها تكون في طلب الدنيا، وإما في سبيل دين باطل لا يؤدي الإيمان به إلا إلى جهنم والعياذ بالله، يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦].

وإما أن هذه الحركة كانت في سبيل الصد عن سبيل الله عز وجل، قال عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١] أي: الذين كفروا في أنفسهم وفي ذواتهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله أضل أعمالهم.

وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:٢٥] فكما أن الدال على الخير كفاعله، وكما أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فكذلك في الجانب الآخر يحمل المبطل الداعي إلى الباطل وزره ووزر من يضلهم بغير علم.

ومع هذا كله فإن الله سبحانه وتعالى واسى أهل الإيمان وعزاهم فيما يلقون من الألم فقال عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤]، وهذا أعظم عزاء ومواساة لما يلقاه المؤمن في زمن غربة الدين حين يكون القبض عليه أشد من قبضه على الجمر.

فلا شك في هذا أعظم عزاء؛ لأن كل إنسان في دار الدنيا مبتلى، وكل إنسان يبتلى، ولا أحد أبداً يخرج من ابتلاء الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:٢]، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢].

إذاً: الابتلاء عام في كل الخلق، لكن كلما اقترب الإنسان من منهج الأنبياء عليهم السلام كلما زاد حظه من البلاء بسبب قوة دينه وقوة إيمانه، كما بين ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم.

فلا يظنن أي واحد من المسلمين الموحدين المستقيمين على طاعة الله حينما يحترق دمه وتحترق أعصابه من الظلم والقهر ومحاربة الدين صباح مساء من السخرية ومن الحملات والاضطهاد بكل أنواع الاضطهاد في مثل هذا الزمان، لا يظن أن هذا التعب ضائع سدى، بل هذا الانفعال في حد ذاته هو عبادة يثاب عليها، فانفعالك وغضبك لله وتمعر وجهك بسبب انتهاك الفجار لحرمات الله عبادة تثاب عليها، والله سبحانه وتعالى مطلع عليك، ويعرف من قلبك أنك تكره هذا، وأنك تألم له، وأنت تثاب على مجرد هذا الشعور.

ومع ذلك ليس هذا فحسب، فلست فقط الذي تتعب، بل أهل الباطل يتعبون، ويسهرون الليالي، لكن ليس في قيام الليل، ولا في تلاوة القرآن، وإنما في الكيد لهذا الدين وأهله، ويبذلون الأموال، ويوظفون الموظفين، وكثير من الجهود يُبذل في سبيل إطفاء نور الإسلام وهدم ما بناه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، واقتلاع الإسلام من جذوره، ومع ذلك يكون مصيرهم هو ما قال عنه عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء:١٠٤]، أي: لا تضعفوا {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤]، لكن مع فارق، وهو أنكم ترجون بصبركم من الله ما لا يرجون، فأنت إذا صبرت على الأذى ترجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأما الظالم الذي يحارب الإسلام فليس معه أحد، قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:٧١]، فلا يمكن أبداً أن يكون لهم ناصر، بل كلهم أعداء لبعضهم في الدنيا وفي الآخرة، كما قال عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥].

فليس المؤمنون وحدهم الذين يحتملون الألم والقرح، بل إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء، ولكن شتان بين المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله سبحانه وتعالى بجهادهم ويرتقبون عنده جزاءهم، وبين الكافرين الذين هم حيارى تائهون ضائعون مضيعون لا يتجهون إلى الله، فأنت في الشدة وفي العناء تتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وتستنصره، وتقول: رب! إني مغلوب فانتصر.

أما الكافر فإلى من يتجه؟! هل يستطيع أن يتجه إلى الله سبحانه وتعالى ويدعوه أن ينصره ويعينه على إطفاء نوره والقضاء على دينه؟! فالكافر لا ناصر له ولا ولي له، قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:١١].

ولذلك كان الصحابة يرفعون هذا الشعار في مواجهة المشركين حينما يلتقون، وقد أخذ أبو سفيان قبل إسلامه يقول لهم في أحد يوم كانت لهم الجولة: اعل هبل، اعل هبل.

ينادي بالعلو لهبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يردوا عليه ويقولوا: الله أعلى وأجل.

فرد الصحابة: الله أعلى وأجل.

وحينما قال الكفار لهم: لنا العزى ولا عزى لكم.

أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا عليهم قائلين: الله مولانا ولا مولى لكم.

فهؤلاء الكافرون ضائعون مضيعون، لا يتجهون إلى الله ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة، فإذا كانوا مع ذلك يصرون ويدأبون في محاربة الحق فمن الأولى بالإصرار والمثابرة والصبر؟! فما أجدر المؤمنين بأن لا يكفوا عن ابتغاء القوم وتطلبهم وتعقب آثارهم حتى لا تبقى للباطل قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهذا المعنى هو عين ما نقصده مما سنذكره -إن شاء الله تعالى- من سعي الكافرين ودأبهم في تحصيل الدنيا أو في الصد عن سبيل الله تعالى.

وبجانب هذا معنىً ثان أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه من قوله: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نا

<<  <  ج: ص:  >  >>