للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حرص الأمين الشنقيطي على طلب العلم]

العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى من نوادر النابغين والعباقرة في هذا الزمان، قال عنه بعض الإخوة: هذا الرجل قذيفة قذفت من القرون الأولى واستقرت في القرن الرابع عشر الهجري، فقد كان يشبه علماء السلف في أحواله، وفي علمه، وفي ملكته.

ذكر العلامة القرآني رحمه الله تعالى عن نفسه أنه قدم على بعض المشايخ ليدرس عليه، وقد كان الشيخ الشنقيطي صبياً صغيراً، ونظام طلب العلم في شنقيط -وهي موريتانيا- أن الشيخ ينزل في مكان في الصحراء ويتخذ خيمة هناك، ثم يأتي الطلبة إليه ويضربون الخيام حول خيمته، ويتفرغون تماماً للعلم الذي سيتلقونه من هذا الشيخ، فإذا فرغوا منه انتقلوا إلى غيره في الصحراء.

فذهب وهو طفل صغير إلى الشيخ ليدرس عليه كتاب لامية الأفعال، وأولها: الحمد لله لا أبغي به بدلاً.

فلما قدم الشنقيطي وهو طفل صغير على الشيخ ونزل عليه لم يكن الشيخ يعرفه من قبل، فأمام ملأ من التلامذة سأله: من أنت؟ فقال مرتجلاً: هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علو نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا إذ ضاق ذرعاًَ بجهل النحو ثم أبى أن لا يميز شكل العين من فعلا وقد أتى اليوم صباً مولعاً كلفًا للحمد لله لا أبغي به بدلا فارتجل هذه الأبيات بمجرد أن سأله الشيخ: من أنت؟! مضى رحمه الله تعالى في طلب العلم قدماً، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران، أي: أن يقرن بين فنين؛ لأنهم كانوا يهتمون جداً بتخصص الطالب وتركيزه على علم واحد حتى يتقنه ثم يتحول إلى علم آخر، لكن الشنقيطي خاصة نصحه بعض مشايخه -لما رأى فيه النجابة والذكاء والعبقرية- أن يقرن بين علمين؛ لأن طاقته وقدرته تؤهله لذلك، كي يسرع في تحصيل العلم، فقد تفرس فيه القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في الدرس والتحصيل رحمه الله تعالى.

حتى إن بعض مشايخه لما رأى عليه أمارة النجابة والعبقرية قال له: يا بني! إن العلماء يذهبون إلى أن من أنس من نفسه أمارات الذكاء والنباهة والنبوغ فإنه يتعين عليه طلب الإمامة في الدين.

يعني: يجب عليه أن يجتهد في طلب العلم حتى يصير إماماً.

قال رحمه الله تعالى في كتابه (رحلة الحج): ومما قلت في شأن طلب العلم، وقد كنت في زمن الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج؛ لأنه ربما عاق عنه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم قال لي بعض الأصدقاء: إما أن تتزوج الآن من تصلح لك، وإلا تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال، ولن تجد من تصلح لمثلك.

يريد أن يثنيني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات: دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللحط جائلة الوشاح ضحوكاً عن مبصرة رقاق تمج الراح بالماء القراح كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح فكم قتلت كمياً ذابلات ضعيفات الجفون بلا سلاح فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباح يقصد الكتب والمسائل العلمية.

أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح فهذه إشارة عابرة إلى مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم وشدة حرصهم على طلب العلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>