للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو همة بقي بن مخلد في الرحلة في طلب العلم]

أنه يلزمنا بدلاً من أن نحشو أدمغة أبنائنا وشبابنا بقصص مفكري الشرق والغرب والملاحدة والكفرة من اليهود والنصارى أن نلقنهم مثل هذا القصص الرائع، فعندنا ما يغنينا عن زبالة أذهان هؤلاء الناس.

فهذا الإمام بقي بن مخلد الأندلسي رحمه الله تعالى رحل إلى بغداد ماشياً على قدميه.

فهل تتصور أن رجلاً يرحل من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه في طلب العلم؟! لقد رحل هذا الإمام من الأندلس إلى بغداد ماشياً على قدميه، وكان جل بغيته أن يلقى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ليأخذ عنه العلم، حكي عنه أنه قال: لما قربت من بغداد اتصل بي خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.

أي: علم أن الإمام أحمد كان في أثناء امتحانه المحنة المعروفة عنه، وكان الإمام أحمد في المرحلة التي هي تحديد الإقامة، والتي كان فيها ممنوعاً من الخروج لمقابلة الناس، ولا يقابله أحد.

قال: اتصل بي خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد، وأنه ممنوع من الاستماع إليه والسماع منه، فاغتممت بذلك غماً شديداً، فاحتللت الموضع، فلم أعرج على شيء بعد إنزالي متاعي في بيت اكتريته في بعض الفنادق أن أتيت المسجد الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق وأسمع ما يتذاكرونه.

فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال، فيضعف ويقوي، فقلت لمن كان قربي: من هذا؟ قال: هذا يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه، فقمت إليه، فقلت له: أبا زكريا! رحمك الله، رجل غريب نائي الدار -يعني: بعيد الدار- أردت السؤال، فلا تستخفني.

فقال لي: قل.

فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث، فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار، وكنت قد أكثرت من الأخذ منه، فقال - الإمام يحيى بن معين رحمه الله تعالى-: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة، وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر وتقلد كبراً ما ضره شيئاً لخيره وفضلة.

فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمة الله عليك، غيرك له سؤال! فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد.

يعني: أعطني فرصة أسألك عن رجل واحد فقط.

قال: أكشفك عن رجل واحد أحمد بن حنبل! فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟! إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.

ثم خرجت استدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومقيد سنة -يعني: جامع سنة-، ولم تكن رحلتي إلا إليك.

فقال لي: ادخل الأسطوان، ولا تقع عليك عين.

يعني: راقب الطريق جيداً، فالمهم أن لا يراك أحداً وأنت تدخل.

فقال لي: وأين موضعك -يعني: أين بلدك- فقلت: المغرب الأقصى، فقال لي: إفريقية؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقية.

أي: من الأندلس، فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على طلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك.

فقلت له: بلى، قد بلغني وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك، فقلت له: أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -يعني: أنا لست من أهل البلد، فإذا جئت أزورك فلن يلفت هذا النظر أحد؛ لأني لست معروفاً هنا في هؤلاء الناس.

قال: أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال فأكون عند باب الدار وأقول ما يقولون، فتخرج إلى هذا الموضع.

والسؤال هم المتسولون، يعني أنه يلبس ملابس المتسولين، ويأتي الإمام أحمد فيقول عند باب الدار ما يقولون، أي: من طلب الصدقة.

قال: فتخرج إليَّ إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه كفاية.

فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الخلق، ولا عند أصحاب الحديث.

أي: لأنه لو تردد على مجالس العلم فسيشتهر، فيعرف أنه طالب علم وطالب حديث، وحينئذ لا يصلح أن يزوره، لكن إذا كان في صورة السؤال فلن يعرفه أحد إذا أتقن أداء هذا الدور.

قال: فقلت: شرطك.

فكنت آخذ عوداً بيدي، وألف رأسي بخرقة، وأجعل كاغدي- يعني الورق- ودواتي في كمي، ثم آتي بابه فأصيح: الأجر رحمكم الله.

والسؤال هنالك كذلك.

أي أن هذا هو اصطلاح المتسولين، فإنهم كانوا إذا سألوا يقولون: الأجر رحمكم الله.

قال: فيخرج إلي، ويغلق باب الدار، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته.

والإمام أحمد يلقب بإمام أهل السنة، مع أنه آخر الأئمة الأربعة، ولم يقل ذلك في حق الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو أبي حنيفة؛ لأنهم لم يدركوا المحنة، فالأئمة الثلاثة ما أدركوا هذه المحنة، وإنما أدركها الإمام أحمد بن حنبل، وثبت فيها، فمن ثمَّ أطبقت الأمة على اعتباره إماماً لأهل السنة؛ لصبره الشديد في هذه المحنة، ومنافحته عن الدين وعن الحق في هذه المحنة الطويلة المعروفة.

قال: فظهر أحمد بن حنبل، وسما ذكره -يعني: رفع الله سبحانه وتعالى شأنه في الناس- وعظم في عيون الناس، وعلت إمامته، وكان تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري -يعني صبره على طلب العلم-، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، وأدناني من نفسه، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب علم -أي: هذا يستحق أن يوصف بأنه طالب علم-.

ثم يقص عليهم قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة، ويقرأه علي وأقرأه عليه، فاعتللتُ علة أشفيت منها -يعني: كدت أن أهلك منها- ففقدني من مجلسه، فسأل عني فأُعلم بعلتي، فقام من فوره مقبلاً إلي عائداً لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، ولدي تحتي، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمين مقبلاً.

أي أن الإمام أحمد أخذ تلامذته وأقبل نحو الفندق حتى يزوره لما علم بعلته، فالإمام بقي بن مخلد لما كان في الحجرة على هذه الهيئة التي وصف من المرض سمع ضجة شديدة في الخارج، ويظهر أن الذين كانوا أمام الفندق كانوا يصيحون ويقولون: هو ذاك.

يشيرون إلى أن الإمام أحمد قادم من بعيد، قال: فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك.

فدخل فجلس عند رأسي، وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم، حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً، وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية.

فرأيت الأقلام تكتب لفظه، ثم خرج عني، فأتاني أهل الفندق يلطفون بي.

أي أن الناس الذين كانوا في الفندق معه عرفوا مقام هذا الرجل الذي أتى إمام المسلمين وإمام أهل السنة يزوره، فصار الناس يعظمونه؛ لأجل زيارة الإمام أحمد له.

يقول: فأتاني أهل الفندق يلطفون بي، ويخدمونني ديانة وحسبة، فواحد يأتي بفراش، وآخر بلحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ لعيادة الرجل الصالح.

يعني الإمام أحمد رحمه الله.

وقد توفي بقي بن مخلد سنة (٢٧٦هـ) بالأندلس، فرحمه الله تعالى.

فالشاهد من هذه القصة هذه الرحلة العجيبة، أن يرحل بقي بن مخلد من الأندلس، فيعبر البحر، ثم يمشي على قدميه إلى بغداد، ويصبر هذا الصبر على طلب العلم، فلاشك في أن هذه من النماذج الفذة من علو همة التي لا نظير لها.

<<  <  ج: ص:  >  >>