للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو همة السلف في حفظ العلم الشريف]

ومن ذلك -أيضاً- علو همتهم في حفظ العلم الشريف، فقد قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث -يعني مليون حديث، والمراد بذلك الأسانيد والمتون- فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته، وأخذت عليه الأبواب.

وقال سليمان بن شعبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب.

يعني: أملى على تلامذته أربعين ألف حديث بالإسناد والمتن، وليس معه كتاب ينظر فيه.

وقال أبو زرعة الرازي: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١]، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.

وقال هشام الكلبي: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت مالم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوقها.

ولما قدم البخاري بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا متن هذا الإسناد لهذا، وإسناد هذا المتن لهذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقيها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فسأله عن حديث فقال: لا أعرفه.

وسأله عن حديث آخر فقال: لا أعرفه.

حتى فرغ من عشرته، وكل حديث يتلوه على البخاري يقول له البخاري فيه: لا أعرفه.

والذين كانوا واقفين يقولون: من هذا البخاري الذي انخدع به الناس، فكل الأحاديث لا يعرفها ولا واحداً منها! فكأن كلما قال: لا أعرفه يقل في نظر العوام ويرتفع في نفس الوقت في عيون العلماء، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم.

ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه.

ثم الثالث، إلى تمام عشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على (لا أعرفه)، فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى عشرة أحاديث، بنفس الترتيب وبنفس الأخطاء، أي: تلا العشرة الأحاديث كما رواها، وقد خلطت الأسانيد وقلبت المتون، وبعدما فرغ من سردها أعادها مصححة، وأعاد الإسناد إلى متنه والمتن إلى إسناده، وهكذا، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالتسعة الآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: ذلك الكبش النطاح.

أي: يمدح الإمام البخاري بالكبش النطاح، يعني: الذي يغلب في المصاولة والمحاورة.

وقال ابن النجار: سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين يقول: كنت يوماً مع الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وأبي سعد ابن السمعاني نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخاً، فاستوقفه ابن السمعاني ليقرأ عليه شيئاً، وطاف على الجزء الذي هو سماعه في خريطته.

أي أنه لما وجد الشيخ قال: أتلو عليك هذه الأحاديث التي عندي عنك.

فقرأها عليه من حفظه كأنه يقرؤها من كتاب!

<<  <  ج: ص:  >  >>