للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو همة الصحابة في جهاد الفرس]

إن كبيري الهمم من المجاهدين يهوون رفع الثقيل من الأمور، وخوض المخاطر، واقتحام العقبات، فأولئك النخعيون الذين تسابقوا على الاستشهاد في معركة القادسية قال واحد منهم: أتينا القادسية، فقتل منا كثير من النخعيين ومن سائر الناس قليل، فسئل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقالوا: إن النخع ولو أعظم الأمر وحدهم.

يعني: هم الذين تجردوا للجهاد في هذه الوقعة.

ورفع الله سبحانه وتعالى الحرج عن المعذورين، فقال عز من قائل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:٩١]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:٦١]، فعذر الحق سبحانه وتعالى أصحاب الأعذار، لكن ما صبرت القلوب، فالأبدان معذورة لكن القلوب لا تصبر ولا تتعاطى الرخصة، فخرج ابن أم مكتوم إلى أحد، وطلب أن يعطى اللواء، مع أنه أعمى، فأخذه مصعب بن عمير، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها، فأمسكه بيده الأخرى، فضرب اليد الأخرى، فأمسكه بصدره وقرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:١٤٤] فهذه عزائم القوم، والحق يقول: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:٦١]، وهو من هؤلاء المعذورين.

وعمرو بن الجموح من كبار الأنصار كان أعرج، وكان في أول الجيش، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد عذرك) فقال: والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة.

وكر الفرس كرة على غرة، فرجع المسلمون متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة؛ لأنه يجوز الفرار إذا كان لأجل الكر والفر أثناء القتال، فيفر المجاهد من أمام العدو حتى يأتيهم من جهة أخرى، أو يعود إلى كتيبة المسلمين يتزود منها ثم يعود، فالمسلمون لما بوغتوا وفوجئوا بهذه الحملة من الكفار رجعوا حتى يرتبوا أنفسهم ويعودوا للقتال، فطاردهم هؤلاء المشركون الفرس، فلم يستطيعوا أن يأسروا منهم أحداً إلا أضعف الناس سيراً وقت الانسحاب أو التقهقر، فاختطفوه أسيراً وعادوا به.

فتصور الآن أضعف واحد في الجيش الإسلامي كيف كان مفهوم الجهاد في سبيل الله في حسه، هذا هو الأضعف الذي لم يستطع الجري ومن ثم أسر، فانظر إلى مستوى الوعي والفهم لحقيقة رسالته في هذه الحياة.

قال له رستم قائد جيش الفرس: ما جاء بكم، وما تطلبون؟! فقال له هذا المسلم: جئنا نطلب موعود الله.

قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم إن أبيتم أن تسلموا، ومن قتل منا أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا وعده، فنحن على يقين.

قال: قد وضعنا إذاً في أيديكم! فقال له المسلم: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى من حولك؛ فإنك لست تحارب الإنس، وإنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره.

فهذا الرجل هو أضعف مجاهد في جيش المسلمين، فانظر إلى فهمه لغايته في الجهاد.

ولقد أوجز خالد بن الوليد وأبلغ حين وصف جنود الإسلام وهو يخاطب الفرس بقوله: قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة.

فهذا وصف صادق باختصار شديد، وهذا ما يعرفه كل أعداء الإسلام في شتى الأعصار والأزمان.

<<  <  ج: ص:  >  >>